كأنّ "المدنيّين" مشوا في تظاهرتين لا واحدة!

وليد حسين

الأحد 2019/01/13
ما أن أغلقتُ باب سيارة الأجرة التي أقلّتني إلى تحت جسر المشرّفية، حيث وزارة العمل في ضاحية بيروت الجنوبية، التي يتولى حقيبتها وزير حزب الله حسين الحاج حسن، حتى تفاجأت بكثرة عناصر مخابرات الجيش المنتشرين في الأرجاء، رغم كون مهمّات هذا الجهاز يفترض أنّها أمنية-عسكرية، لا مرافقة المتظاهرين الذين تجمّعوا أمام مبنى الوزارة.

عسكر ومدنيون
أمام الباب الرئيسي للوزارة عدد أفراد شرطة مكافحة الشغب، بهراواتهم الغليظة وتُروسهم المضادة للرصاص، فاق أعداد المتظاهرين، الذين بدأوا بالتجمّع تحضيراً للانطلاق في تظاهرتهم، وصولاً إلى وزارة الصحّة في منطقة بئر حسن.

رويداً، رويداً كان يزداد عدد المتظاهرين ليصبحوا بالعشرات. يمازحني أحدهم: أين الوجوه المدنيّة؟ وراح يعدّد أسماء الأحزاب اليسارية التي تنتمي إليها جمهرة المتظاهرين، واستغرب متسائلا: أوليس من دعا إلى هذه التظاهرة المجموعات المدنية؟

غربة الشعارات عن المكان
قبل انطلاق التظاهرة، بدت اللافتات التي حملها المتظاهرون غريبة عن المكان. إذ لم نعثر على لافتة واحدة تحاكي رمّزية المكان، أي وزارة العمل. ما جعلنا نعتقد أنّ المنظّمين سهوا عن كتابة لافتات تخصّ وزارة العمل وحقوق العمال.. فعلى إحدى اللافتات المطبوعة كُتب "جريمة الدواء مسؤول عنها بعض التجار فاقدي الضمير والحسّ الإنساني"، وبخط اليد أُضيف "وطبعا وزارة الصحّة". إلى جانبها لافتة أخرى كُتب عليها "كل وزراء الصحة مسؤولين عن تدهور النظام الصحي".. وتتعدّد اللافتات المندّدة بوزارة الصحّة: "أين أصبحت ملاحقة مزوّري أدوية السرطان في مستشفى رفيق الحريري الحكومي؟"، و"السقوف المالية للمستشفيات: مادة للابتزاز السياسي"، و"أين دور وزارة الصحة في سلامة الغذاء؟"، و"أين المفتشية الصحية في التفتيش المركزي، في ملاحقة الفساد في وزارة الصحة والمستشفيات الحكومية؟".. إلى أن نعثر على لافتة وحيدة كُتب عليها "العمل والصحة خط أحمر".

لولا صرخة ذاك الرجل الستّيني، أمام شاشات التلفزة، وهو من ضمن ثلاثمئة وخمسين موظّفاً مصروفاً من شركة "تي أسّ سي"، من دون الحصول على حقوقهم، لكانت جمهرة المتظاهرين أمام هذا المبنى خرجت عن رمزيّة المكان. فمن على عكّازه راح هذا الكهل يصرخ ويشتم الدولة والمسؤولين والاتحاد العمالي العام ووزير العمل، معتبراً أنّه "أكبر نصّاب"، كونه لم يحرّك ساكناً لمحاسبة أصحاب الشركة على الصّرف التعسّفي، الذي طاله وزملائه بعد إقفالها.

المختلفون
تحت جسر المشرّفية راح مناصرو "شبكة مدى" يجمّعون أنفسهم، قبل الإنضمام إلى بقية المتظاهرين أمام الوزارة. في مشهد بدا كما لو أن هؤلاء الشبّان، وطلاب الجامعات الخاصة، مثل الجامعة الأميركية واليسوعية واللويزة، أرادوا تمييز أنفسهم عن بقية المتظاهرين. وهم فعلاً كانوا كذلك لناحية لافتاتهم أو هتافاتهم لحظة تقدّمهم للإنضمام إلى التظاهرة. فجميع لافتتاهم طالت الأزمة الاقتصادية: "ضريبة على الـ1 في المئة مش على الأكثرية"، و"نصف الواردات الضريبية لخدمة الدين العام"، و"41 ألف دولار حصّة اللبناني من الدين العام والخاص" و"إذا ما لقينا شغل حتلاقونا بالشارع"، و"تشبيح أمني، تشبيح اقتصادي". أما هتافاتهم، فتضمّنت انتقادات للمصرف المركزي وتمويله للبنوك: "قولوا لمصرف لبنان مش رح ندفع حق الدين.. ويسقط، يسقط حكم المصرف". وأخرى حول قمع الناشطين وحرية الرأي، طالت رئيس الجمهورية: "علّي القمع بعهدك علّي.. بكرا الثورة تشيل ما تخلّي.. يسقط، يسقط حكم الأزعر".

تظاهرتان
على وقع الأناشيد الثورية وهتافات "خبز، حرية، عدالة اجتماعية"، وتلك التي تنتقد المسؤولين والمصارف، سارت التظاهرة في الشارع الرئيس للضاحية الجنوبية، المؤدي إلى السفارة الكويتية. في مشهد بدا كما لو أنّ المشاركين مشوا في تظاهرتين داخل تظاهرة واحدة. في المقدمة حافلة تبثّ الأناشيد الثورية "يا رياح الشعب يا روح الظلام"، تماشياً مع جمهور اليسار، وفي المؤخّرة راح طلّاب وشبّان "شبكة مدى" يهتفون الشعارات المستوحاة من الأغاني اللبنانية: "شكّل الحكومة شكّل مش فارقة معَايْ" و"طلع الدين عا الدولة طلع الدين، صار يزيد شوي شوي".. إلى غيرها من الأغنيات والهتافات، التي تعبّر عن روح شبابية مدنية، ومختلفة عن الشعارات "الممجوجة" لقوى اليسار.

ورغم كون "شبكة مدى" لم تكن من المنظّمين الأساسيّين للتظاهرة، والتحقت ببقيّة المجموعات المدنيّة المنظّمة، في الأيام الأخيرة التي سبقت موعد التظاهرة، إلا أنّ حضورها الشبابي بدا متمايزاً عن بقيّة المنظّمين. حتى أنّ حضورها العددي بدا طاغياً على حضور بقيّة المجموعات المدنيّة، التي ذابت عمليّاً بين الجمهور اليساري التقليدي، كمّاً ونوعاً.

أهالي الضاحية
على طول الشارع الرئيسي للضاحية الجنوبية، الممتد من المشرّفية وصولاً إلى السفارة الكويتية، راح أهالي الضاحية، الواقفين على شرفات منازلهم، يسترقون النظر من خلف الستائر. أما القلّة القليلة التي خرجت إلى الشرفات فاتحة الستائر فلم تلبّي طلب المتظاهرين وهم يردّدون: "ياللي قاعد عا البلكون يالله إنزل شعبك هون". في الموازاة راح الواقفون إلى جانب الطرقات يلتقطون الصور للمتظاهرين، مشدوهين بهذا المشهد الذي بدا غريباً عنهم. مدنيّون ومدنيّات اخترقوا "بيئة حاضنة" لتظاهرات "اللطميات" بألوانها السوداء.

المطالب
ما أن وصلت التظاهرة، التي لم يتجاوز عدد المتظاهرين فيها الألف شخص، إلى آخر طلعة السفارة الكويتية، حيث تستقبلك صورة ضخمة للإمام موسى الصدر كُتب عليها "كلنا أمل ستعود"، تبدأ الحافلة في المقدّمة ببث أغنية "راجع، راجع يتعمّر راجع لبنان". أغنية بدت مختلفة عن جميع الأغنيات والأناشيد السابقة، في مشهد بدا كما لو أنّ التظاهرة تنفّست الصعداء في وصولها إلى هذه المنطقة "المحايدة"، على بعد أمتار قليلة من مبنى وزارة الصحة. هناك اختتموا تظاهرتهم بكلمة ندّدوا فيها بـ"السلطة، التي تحتمي بنظام قائم على المحاصصة والفساد والتحريض الطائفي". وطالبوا بـ"التغطية الصحيّة الشاملة لكل المواطنين، وتطبيق قانون العمل وتصحيح سنوي للأجور بالتوازي مع التضخّم، وتفعيل الدور لمجلس الخدمة المدنية ورفع التدخلّات والمحسوبيّات عنه، ووضع خطة طوارئ لمكافحة البطالة". وأعلنوا عن الاستمرار في التظاهرات، التي ستطال جميع الوزارات.

في المناطق
تجدر الإشارة إلى أن الحزب الشيوعي وبعض المجموعات المدنية سيتحرّكون اليوم الأحد في تظاهرات عدّة في مراكز المحافظات اللبنانية على الشكل التالي: في صيدا: من أمام فرع مصرف لبنان حتى ساحة النجمة، وفي زحلة: من أمام السراي الحكومي، وفي عاليه: من أمام السراي الحكومي حتى فرع مصرف لبنان، وفي  جونيه-الذوق: من أمام معمل الذوق الحراري، وفي النبطية: من أمام ثانوية حسن كامل الصباح القديمة حتى السراي الحكومي، وفي عكار: من ساحة حلبا، وفي اللبوة-بعلبك: من أمام مبنى مؤسسة الكهرباء، وفي الشوف: من مثلث بلدات مزبود شحيم دلهون، أمام مركز شركة الكهرباء، وفي طرابلس: من أمام مبنى الضمان الاجتماعي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024