كورونا الذي حرمني الصحة والحرية معاً

أحمد الحاج علي

الخميس 2020/10/22

في الثانية عشرة من عمري حُرمت الصحة لزمن جريحاً أثناء الحرب. بعدها بثلاثة أعوام كنت أخسر الحرية سجيناً. لم يكن يخطر ببالي، حتى أسبوعين مضيا، وبعد أربعة وثلاثين عاماً من أول خسارة، أنني سوف أُحرم الصحة والحرية معاً. 

حبس الجسد النحيل
في الشهر الأخير من عام 1986، كنا نقف صفاً طويلاً من الأطفال والنساء ننتظر دورنا لملء قوارير عند أنبوب مياه، بعدما انقطعت عن كل المنطقة. دوي هائل، وغبار، أخبرنا انقشاعه عن كثير من الدم والموت. الشظايا التي منعتني من الحراك لأسابيع، لم تمنع الطاقم الطبي، ومعظم زوار الطابق الثاني في مستشفى حيفا أن يمرّوا باستمرار على غرفتي ليلاطفوا ذلك الطفل الممدد.

وإذا اشتد القصف يهرعون لنقلي إلى غرفة أكثر حماية. كانوا يدافعون عن أملهم ومستقبلهم من خلال الطفل الذي يتعافى. وكنت أجد فيهم حريتي وتعويضاً لانكسار عاطفي. حبس الجسد النحيل على ذلك السرير الحديدي كانت تعتقه القصص والحكايا والمزاح والعناق.

بعد ثلاث سنوات، الطفل صار فتى سجيناً ضمن حدود تقل عن كيلومتر مربع واحد. بعد أشهر قرر الخروج. ينظر رجل الأمن عند الحدود إلى تلك البطاقة الخضراء يومها، قبل أن تتحول إلى اللون الأزرق بعد أعوام، بما اعتُبر إنجازاً تاريخياً. يفتش في الدفاتر الممتلئة بأسماء مطلوبين، وعمر بعضها ربما يتجاوز السنوات التي عاشها ذلك الفتى.

باستمرار يحدّق في الدفتر وفي عيني الفتى، وكأنه عثر على شيء ما، فيزداد الفتى خوفاً. لم يجد رجل الأمن الإسم في دفاتره. لكن بدا منزعجاً لسبب غير معروف. الصمت كسرته صرخة أحدثت رجفة في أصابع يدي الفتى: "اسمك ليس مطلوباً، لكنك أنت المطلوب؟". "كيف؟". "بطاقتك مزوّرة" يرد رجل الأمن.

وكأن رجال الأمن في بلادنا خُلقوا بلا أذنين، لم يستمع لاستفساراتي التي تحوّلت إلى توسلات ثم صرخات يائسة تحاول الاحتماء من لكماته وركلاته. بعض تلك الصرخات كانت مصطنعة إرضاء لسادية الرفيق زاهر، ولإقناعه بأنه انتصر في تلك المعركة. حبسني لساعات في غرفة مظلمة، ثم قرر إطلاق سراحي، رامياً ببطاقتي "المزورة" في الطريق، لألمّها، غير مصدّق أنني أصبحت حراً. لم أخسر الصحة، لكن خسرت الحرية مؤقتاً، وشكّل ذلك الحدث رؤيتي لها وموقفي من كل خصومها وضحاياهم.

"عقدة العار"
قبل أسبوعين، سعال متقطّع في اليوم الأول. يشتدّ في اليوم الثاني، مصطحباً حمّى خفيفة، تقوى في اليوم الثالث، وينبئني الفحص أنني صرت نزيلاً في محبس كورونا. تتراكم العوارض، من ضيق في التنفس، إلى فقدان حاستي الذوق والشم، ثم أوجاع في الحلق. ألمٌ يثبت مركزية الجسد، وقسوة الألم تقول إن هناك ما هو أبعد.

كأي مرض بهذه الحدّة يهز اعتقاد الإنسان بخلوده الشخصي، لكن مع كورونا وأنت تكتشف الوهم لا تجد ما يواسيك في مرارتك. حتى اليد التي تضع قطعة من قماش مبتل على جبينك لتطرد الحمّى، لا تستطيع أن تقبلها بنبض شفتيك.

تكاد تكون وحيداً في وجعك. روّض الإنسان كل شيء في هذا العالم تقريباً إلا وجعه. رنين الهاتف المتكرر لا يهزم الوحدة. الأصوات باردة إن لم تكن العينان حاضرتين، واليد تلامس اليد كما كان يصافح إنسان الكهف وعجز عن ذلك إنسان الكورونا، وكما فعلت الأجساد عناقاً يوم كنت جريحاً. يبدو كل صوت من هاتف هو هروب من المواجهة، وكل هروب يكاد يزرع في مريض كورونا "عقدة عار" ذلك المرض.

في اليوم الرابع أحاول التمرّد على جسدي، لأصل منزل أمي الذي يفصله طابقان عن منزلي، لأطمئنها. أحمل قدميّ الثقيلتين رغم هزالهما المستجد. أمسك أنفاسي حتى لا يكشفني السعال. وأنزل. أصل، فأسلّم عليها واقفاً عند الباب. أصطنع الضحكة. أشير بإصبع الإبهام، إشارة إلى أن كل شيء على ما يرام. ثم أصعد بصعوبة أكبر، وأسعل بصوت خافت حتى لا تكتشف قسوة المرض. فرحتُ أن العدوى لم تصلها بعد.

في اليوم السادس خذلني جسدي، ولم أستطع النزول، قررت الاتصال بأمي عبر الهاتف، فإذا اجتاحني السعال، قطعت المكالمة متذرعاً بضعف شبكة الإنترنت. سلّمت بكلمات قصيرة، لم تكد تجيب، حتى بدأت بالسعال، ثم قطعت هي الاتصال. لقد أصيبت بكورونا. عرفت في ذلك اليوم. الهواجس تكبر.

الملك والنوم
ما كان أداءً تلقائياً قبل أيام، أصبح يحتاج لجسارة وتخطيط وقرار. الطعام، الوصول إلى دورة المياه، تغيير الملابس، فضلاً عن الاستحمام. هُزال وشحوب الوجه يصعّب من مواجهة المرآة. لا هواء كافياً يملأ الرئتين. أتوقف عن التنفس قليلاً لأحظى بشهيق كامل، حيلة تكشف غباءها زيادة في السعال.

الأوجاع التي تصارع النوم، ينضم إليها عدم الثقة به. كذلك الملك العربي الذي برر تنكيله بوزير دفاعه وعائلته، بأنه بعد محاولة انقلاب الوزير لم يعد يعرف النوم بلكتا العينين أو يثق به. كورونا هو الذي نكّل وهو الذي يطرد النوم. 

التواصل الإنساني يساعد على المقاومة، وأنت وحيد إلا من بعض أوجاعك، ولا مشاركة مباشرة للتخفيف منها. كورونا والذعر الذي أحدثه بحاجة لتماسك مجتمعي لمواجهته، كيف ونحن مطالبون بالتباعد؟

عندما كان يشتد المرض، ويتناقص الأوكسجين من الرئتين، رغم وجود 24 حارساً حولهما، كنت أعود إلى أقسى لحظات حياتي، وأتمنى رجوعها فأعمل فتى عتالاً أُزيل الركام من البيوت بعد الحرب، لكن لأتنفس، كما كنت، من دون سعال ووجع. كورونا يكشف لك أن ثمة أشياء جميلة حولك لم تنتبه إليها، أو لم تعشها، وتأمل الانعتاق منه لتفعل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024