إحياء زراعة التبغ: القناديل عادت تتلألأ في وديان الجنوب

نبيلة غصين

الإثنين 2019/06/03
تزدحم معظم حقول القرى الجنوبية في هذه الأيام بمزارعي التبغ، تجدهم ينتشرون في الوديان، جماعات جماعات، يقبلون إلى الأرض فيحولونها من جرداء إلى خضراء، تتغاوى فيها شتلات التبغ رويداً رويدا.

نظام "العونة"
لطالما شكلت هذه النبتة مصدر الرزق الوحيد لعددٍ كبيرٍ من العائلات الجنوبية، الذين يزرعون الأراضي بناءً على "رخصةٍ" يستحصلون عليها من إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية، أو "الريجي". وكان جميع أفراد العائلة يتعاونون على إنجاز الأعمال كافة. أما اليوم، فإن الجيل الجديد الذي وجد فرص عملٍ أخرى، لم يعد مكترثاً ولا قادراً على العمل في زراعة التبغ، التي تحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت. لذا، بقي حمل زراعة "الدخان" ملقى على عاتق الأهالي وحدهم، فباتوا أمام خياراتٍ: إما التخلي عن الرخصة، وبالتالي يخسرون مورد رزقهم الوحيد، أو الاستعانة بالعمّال. وهذا ما سيرفع من تكلفة الإنتاج، وبالتالي ستصبح العملية برمتها خاسرة. من هنا وجدت بعض العائلات الحلّ بالعودة إلى نظام "العونة".

قبل بزوغ الشمس يغدون إلى الحقل، أربعة رجال وخمس نساءٍ، تجاوزت أعمارهم الستين. يشكلون بزيهم الموحد فريق عملٍ واحدٍ، يرتدون ملابس داكنة اللون ويعتمرون قبعات القش. ورثوا زراعة الدخان عن أبائهم، لديهم نظام خاص في العمل قائم على "التبادل" و"العونة"، على نحو تقوم كل عائلة بمساعدة الأخرى على زراعة أرضها بدلاً من استئجار العمّال.


توزيع المهام
بقامته الممشوقة يجوب أبو محمد (72 عاماً) الحقل ذهاباً وإياباً، أما المسمى الوظيفي له فهو "ضريب السكة"، يحمل بيده عصا حديدية طويلة، حادة الرأس، تدعى "سكة"، يضربها في الأرض مشكلاً حفرة صغيرة تدعى"البوج". يملؤها بالماء عبر "ماسورة" يحملها باليد الأخرى. يتقدم "ضريب السكة" فريق العمل، يرافقه عامل، غالباً ما يكون فتىً يافعاً، ينحصر دوره بإزالة العوائق (حجارة وأعشاب) من أمام "نبريش" المياه لضمان استمرار تدفقها. أما بقية فريق العمل من النساء والرجال فيقومون بغرس النبة في "البوج".

يناشد أبو محمد كغيره من المزارعين القيمين والمسؤولين، "أهلي كانوا يزرعوا دخان بس هيدا الجيل الجديد رح يخليها "بور"، هيدي النبتة هي لي خلتنا صامدين بأرضنا وحافظنا عليها، منطلب من الريجي تحس فينا وبتعبنا".

مراحل زراعة التبغ
بعد زراعة الحقل يبدأ موسم القطاف، وتتألف النبتة من أوراق عدة: "التكعيبة"، وهي الأوراق الأقرب إلى الأرض، تتبعها أوراق "التنوة" ثم "الصليبي"، بعدها "الرقبة" فـ"الطربونة".

مع بداية القطاف تبدأ دورة تقويمٍ جديدةٍ للمزارعين، وروتينٍ يومي يحدده موسم الدخان. في الماضي، كانوا يذهبون إلى الحقول باكراً حاملين "اللوكس" أو القناديل التي تتلألأ في الوديان، فعليهم الإنتهاء من العمل سريعاً قبل اشتداد حرارة الشمس، فالندى يجعل الورقة طريّة. وإذا ما اشتدّت الحرارة وجف الندى تتكسرالأوراق، ما يؤثر سلباً على جودة المنتج. وهدف المزارع يتمحورحول إنتاج محصول جيد "نظيف" يحافظ على سعر الكيلو.

يذهب جميع أفراد العائلة إلى القطيفة، فيما تلازم إحدى الفتيات المنزل، للقيام بالأعمال المنزلية وتجهيز طعام الفطورريثما يعودون. بعد تناول الفطور يجلسون على المصطبة لشك أوراق الدخان المقطوفة في "الميبر": عبارة عن سيخ حديد مثقوب من الجهة الخلفية يدخل فيه الخيط لتفريغ الأوراق منه عند إمتلائه. يستمرون حتى الظهيرة لحين شكّ الأوراق جميعها.

يستمر موسم القطاف حوالى ثلاثة أشهر، حين يتم تعليق الدخان على "السقالة" حتى يجف. بعدها، ينقلونه إلى داخل المنازل لحمايتها من الرطوبة والحرارة، ثم يأتي موسم "التصفيط"، حين يقومون بترتيب أوراق الدخان حسب الحجم واللون، ووضعه في "الدانك"، وهو عبارة عن صندوق خشب، يصففون أوراق التبغ في داخله بطريقة منظمة، ثمّ يغلفونه بأقمشة خاصة ويضعونه في "الجورة" بإنتظار موسم "التسليم".

مهنة النساء
لطالما كانت الأراضي الجنوبية مملوكة من قبل "الإقطاعيين"، الذي يستحوذون على الأراضي والأرزاق. فكان المزارعون يعملون لديهم مقابل حصة معينة. وكان في كل قرية مكان يدعى "المصلحة"، وكانت معظم فتيات القرية يذهبن إلى المصلحة. وهي عبارة عن خيمة كبيرة يتم نصبها، كي تجلس الفتيات تحتها ريثما ينتهين من عملية "الشك". وكانت كل فتاة مسؤولة عن تعبئة "صحارتها" وشكها. ويسمح لها بالذهاب إلى المنزل بعد الانتهاء مقابل بدلٍ مادي.

"أنا خلقان تحت الشتلة"
"لما كنت أسأل أمي أيمتى خلقت، كانت تقلي كنا عم نزرع دخان". بهذه الجملة يبدأ محمد ضاوي (65 عاما) حديثه للدلالة على تاريخ هذه النبتة وقدمها في الذاكرة، والتي كان لها تأثيرها على مناحي الحياة كافة، من العمارة إلى الاقتصاد، فالحياة المجتمعية وحتى الأمنية.

فقد قامت هندسة المنازل وتقسيمها على نحوٍ يتلاءم وزراعة الدخان، فكانت المصطبة أو "السطيحة" أمام المنزل حاجة ضرورية لوضع الدخان عليه، بعد قطفه يومياً. في السابق كان الدخان يعلق بعد تشميسه داخل المنازل، "كنا ننام والدخان فوق راسنا، ونشم ريحة الدخان كل الليل"، يقول ضاوي. فيما بعد، بات هناك غرفة خاصة لتعليق الدخان خارج المنزل تدعى "المستودع" مسقوفة "زينكو".

وفيما تحتّم هذه الزراعة أن ينال المزارع مستحقاته مع تسليم التبغ لشركة الريجي في نهاية الموسم، وطالما أن زراعة التبغ كانت مصدر رزق العائلات الوحيد، كان عليها تدبر أمر معيشتها خلال السنة. لذا انتشر في الماضي وجود المرابين، الذين يسلّفون المزارعين الأموال، ويستردونها في نهاية الموسم مقابل فائدة. وكان المزارع في أغلب الأوقات يتنازل للمرابي عن بدل تسليم الموسم بموجب أوراق، ثم يعود للاستدانة من جديد وهكذا دواليك. مع انتشار المتاجر الخاصة "الدكان"، بات المزارع يشتري كل حاجياته من الدكان ويوفيهم مع تسليم الموسم.

موسم الأعراس
وكان لزراعة التبغ أثرها في الحياة المجتمعية، وفي تشكيل مفاهيم وأعراف جديدة، "ما بتجوز واحد بيزرع دخان"، جملة ترددها معظم الفتيات، اللواتي عانين من زراعة الدخان عند ذويهم، وباتت الأفضلية للعريس "البيروتي" الذي سيعيّشها براحة.

مع تسليم موسم الدخان يبدأ موسم "الأعراس"، وكان والد العروس يشترط على أهل العريس "النقلة لبعد التسليم". بهذا يضمن والد العروس يد عاملة أساسية. كذلك يلعب الشق الاقتصادي دوره هنا، إذ مع تسليم الموسم يتم قبض بدل الأتعاب، ويصبح بإمكان الأهل تجهيز العروس.

أما أمنياً، فقد كان هناك جهاز أمني خاص تابع لإدارة حصر التبغ والتنباك، وهم "الورادنة"، وتقوم مهمة الجهاز على مراقبة الأهالي والمزارعين، لمنعهم من استعمال التبغ لأسباب شخصية، فامتلاك التبغ كان محصوراً بشركة الريجي، وذلك لحماية وتشجيع منتجات السجائر في السوق مثل "الططلة"، "البافرا" و"الحمرا". وكان هناك أشخاص يتاجرون بالتبغ خارج حصرية "الريجي"، ويخالفون القانون فـ"يفرمون" الدخان في المغاور، بعيداً عن أنظار "الوردان" وأهل القرية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024