لغة ثورة تشرين.. الشتيمة وقرع الطناجر وسقوط الآلهة

أورنيلا عنتر

السبت 2019/12/21

في السادس عشر من تشرين الأول كان استخدام تعبير مثل "صمّام الأمان" لوصف زعيم سياسيّ يمرّ مرور الكرام، إذا ما سُمع في تصريح أو أثناء نشرة الأخبار. لكن الشرارة التي انطلقت في اليوم التالي، في السابع عشر من الشهر نفسه، حوّلت هذا التعبير وغيره، الذي لا طالما سمعه وقرأه وتداول به اللبنانيون بشيء من الطبيعية المفرطة، إلى مدعاة للسخرية. فجأة، بدا هذا التعبير أشبه بموضة بالية، كمن يعيد النظر إلى ملابسه وملابس أهله في ألبوم صور العائلة القديم، ويضحك. يتشارك الصور مع إخوته وأولاد عمّه ويضحكون ضحك الأطفال على قديم بات يبدو هزليّا.

هذا السياسي "يخاصم بشرف" وآخر "يحمل بيده ساعة رمل سياسية" وثالث "يدوّر الزوايا لكنه لا يعرف المساومة ولا المراوغة ولا المهادنة". تبدو هذه التعابير كلها فارغة من أي معنى، خشبيّة، تطنّ كضجيج سجع ركيك، لدرجة أنّ قرع الطناجر في الشوارع أصبح أكثر بلاغة منها. في الشارع حيث قرع الطناجر، يلهو الثوّار والشبّان والشابات منهم تحديداً باللغة. لغتهم أكثر مرونة، ينتجون الشتائم ثم يستبدلونها بعبارات غير نابية ثم يعودون إليها عند الضرورة.

الشتيمة والسخرية
يقول الدكتور في الجامعة اللبنانية بلال عبد الهادي، متخصص في الألسُنيّة وعلم اللغة الحديث، أنّ هتاف الـ"هيلا هيلا هو" هو كالمبتدأ يعوزه خبراً يتأرجح بين الشتم تارة وبين السخرية والتحبب (يا حلو) تارة أخرى.

استحوذت الشتيمة على اهتمام اللبنانيين، بين مؤيّد لها يعتبرها عنفاً لفظياً تجاه سلطة فاسدة و"أضعف الإيمان"، بمواجهة الطبقة السياسية اللبنانية، ومعارض لها يسعى لتهذيب الثورة ولحفاظها على أدبيّات معيّنة. في هذا السياق، يعتبر عبد الهادي أنّ الثورة أسقطت محرّمات ثلاث بدرجات متفاوتة وهي: الجنس والدين والسياسة. في السياسة، أسقطت الشتيمة، ولغة الثوار بشكل عام، "الرموز" التي كان ولا يزال يتمّ تأليهها من قبل مناصريها. هذا العمل هو عبارة عن تدنيس لمقدّسات وضعتها الناس وتسقطها هي أيضاً. في الدين كذلك، يعتبر عبد الهادي أنّ رجال الدين أنفسهم، الذين كانوا يضعون الخطوط الحمر في السياسة وخارجها، أصبحت مواقفهم مدانة، وتدخلهم في شؤون السياسة مدان أكثر بعد. من هنا، كان الشعار التالي: "قبلان منّو قبلان، دريان منو دريان، والراعي منو راعي". أمّا في الجنس، فكان التحرر الأكبر، حين هتفت النساء بالكلمات النابية قبل الرجال. وهذا الأمر جدير بالذكر لأن المجتمع اللبناني لطالما اعتبر أن الشتيمة مقبولة أكثر إذا ما قالها رجل. يشرح: "على الرغم من أنّ الشتيمة في غالبها ذات طابع ذكوريّ، لكن النساء، الكبار والصغار، ردّدوها لأنها في الأصل فقدت معناها المباشر والأساس، لتلبس معنى واحداً لا ثاني له ولا لبس، وهو ذمّ السلطة وأركانها فحسب".

ويضيف: "في السياق نفسه، كلمة مثل "مبسوطة" ذات الدلالة الإيجابية تحوّلت إلى هجاء محبوب وخفيف الظل لمجرّد أنها، هي أيضاً، خلعت عنها معناها الأساسي واكتسبت المعنى التي تختاره لها الثورة. أمّا كلمة "سحسوح" ذات الدلالة السلبية، فاكتسبت معنى فكاهيّاً يهدف إلى التمييز بين مرحلتين، تماماً كما يفصل مثلاً بين "ما قبل التاريخ" و"ما بعد التاريخ".

من جهتها، تعتبر الدكتورة كلوديا شحاده، أستاذة جامعية متخصصة في علم الألسنيّة، أنّ الشتيمة حرّرت اللغة وحرّرت التعبير، وأن غضب اللبنانيين ونقمتهم على سلطة فاسدة لا يمكن إلا أن يترجم لغويّا عبر الشتيمة. يتابع عبد الهادي معتبرا أنّ هيبة السلطة والنظام الحاكم سقطت، وسقوط الهيبة يكون دائما لصالح اللغة ولصالح تحرّرها هذا.

الهتافات 
تضع شحادة الهتافات في خانات أربع: الأمثال الشعبية على سبيل "ما أعزّ من الولد إلا وحدة البلد". اللعب على الكلام والأضداد على مثال "الطالب اللبناني انتاجه داخلي واستهلاكه خارجي"، الشتيمة مثل "الهيلا هو" الأصليّة، والفكاهة التي تعبر الأغلبية الساحقة للشعارات، تترافق هذه الشعارات مع أخرى مرحليّة كالتي توجّهت ضدّ المرشّح السابق لرئاس الحكومة سمير خطيب "يا خطيب وينك وينك، العروس هربت منك" والتي احترقت مع احتراق اسمه. وحسب عبد الهادي، كل الثورات تخلق شعارات فيها شيء من الشعر، من السجع، تسهيلاً لحفظها في الذاكرة. ويضيف: "الهتاف له قواعده وقوانينه، منها أن يكون قصيرًا، أن يشبه المعزوفة، وأن يكون فيه لعب على الأصوات فيما بينها".

الشعارات التي صاغتها ثورة تشرين شكّلت قطيعة تامّة مع أي شعارات أخرى لأي انتفاضة أو حراك سبقها. فالشعارات على نسق "بالروح بالدم نفديك يا فلان"، أو "الله، لبنان، فلان وبس" وغيرها من الشعارات التي تصلح لأي حدث حزبي بمجرّد تغيير اسم الحزب أو الزعيم، أصبحت بالية. وإذا كانت بأضدادها تُعرف الأشياء، فهذه الثورة لا تتميّز بالتباين وحسب مع ما سبقها بل بنقضه حتى. فالثورة أخرجت كل شيء إلى العلن، وبان القديم والجديد، وظهر الصراع بين السلطة وأركانها فيما بينهم، وبينهم مجتمعين وبين الثائرين، خصوصاً على مستوى اللغة. بالتالي، أي مقارنة بسيطة بين خطاب ركن من أركان السلطة من جهة ولغة الشارع من جهة أخرى، تظهر الهوّة العميقة التي بينهما. فعلى الرغم من أنّ الثوّار أنفسهم ما عادوا يترقّبون مضمون خطابات الزعماء، وهي محشوّة بالوعود الفارغة والتبرير ورمي المسؤولية على الآخرين، إلا أنّها في الشكل أيضاً ما عادت تحاكيهم.

اللغة العربية
يشير عبد الهادي إلى وجه آخر من وجوه التحوّلات على صعيد اللغة بعد ثورة تشرين، وهو التعبير باللغة والحرف العربي. يشرح: "التعبير في لبنان يكون إمّا بالكتابة بالعربية الفصحى أو بالعامية أو باللغة العربية إنما باستخدام الأحرف اللاتينيّة وبعض الأرقام، فضلا عن التعبير بالفرنسية أو الإنكليزية". لكنه يشير إلى أنّ التعبير باللغات الأجنبية شبه غائب في ثورة تشرين، على عكس ما كانت عليه الأمور في "انتفاضة الأرز" سنة 2005، عندما كُتب عدد كبير من الشعارات بالأجنبية. يعتبر عبد الهادي أنّ الكتابات باللغة الأجنبية عام 2005 كانت مناشدة لدول خارجية لإنشاء محكمة دولية وغيرها من المطالب، التي تتخطى حدود الوطن. لكنّ المطالب في ثورة 17 تشرين هي مطالب محلية وداخلية. لذا، كان اللجوء للعربية حصراً.

يشبّه عبد الهادي الحرف ببشرة اللغة لا بلباسها، فاللغة بحسبه لا يمكن أن تخلع عنها الحرف وتلبسه كيفما تشاء. ويعتقد أن "غياب التعبير بالحرف اللاتيني، خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي، هو تعبير عن روحيّة الناس الثائرة. فقبل الثورة كان بين الناس تمزّق مناطقي أو طائفي، والثورة حاولت أن تمدّ جسوراً بينهم". والحرف العربي بالنسبة له هو بمثابة جسر فيما اللاتيني هو أقرب إلى سور بين الناس. ويضيف: "العودة إلى اللغة العربية، خصوصاً لدى الشباب وهم أكثر من يستخدم الحرف اللاتيني، هي رغبة بالعودة إلى الوطن، والعودة إلى الدولة وهي أيضا رغبة المغتربين بالعودة إلى بلدهم".

وبما أنّ الرسائل التي يحملها الثوّار في الشارع هي موجّهة للسلطة الحاكمة ولأركانها، فهي توجّه باللغة العربية. مع ذلك، هم متمسّكون بلغتهم المرنة والعنيفة في آن معًا، لا يحاكون السلطة بلغتها هي. فلغة السلطة هي لغة "الإنسان الذي لا يتكلّم لإيصال أفكاره بل لإخفائها". أمّا الرسالة الأبلغ على الإطلاق هي للثائر الذي شتم الحاكم، فسئل عمّا إذا كانت هذه الشتيمة توصل رسالته للحاكم وتعبّر عن وجعه فجاء جوابه: "أنا بدّيش وصلّو رسالة!"  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024