أربعة مشاهد من طرابلس بعد أيام "الحشر"

جنى الدهيبي

الجمعة 2021/01/15

في يومها الأول من حالة الطوارئ الصحية التي دخل بها لبنان، يمكن القول أن المشهد العام للالتزام بمقررات الإقفال العام في طرابلس، بلغ حدود 90 بالمئة. وبعد أيامٍ من الخروقات والتخالط والاكتظاظ، استيقظت عاصمة الشمال صباح الخميس 14 كانون الثاني على غزارة الأمطار التي طافت بها بعض الشوارع، ولم يخرق سكونها بين دقيقةٍ وأخرى سوى مرور السيارات خلسةً. أمّا المحلات التجارية فقد أقفلت أبوابها وخلت الشوارع من المارة، باستثناء بعض الأحياء الداخلية والشعبية.

وكمختلف المناطق اللبنانية، اقتصر العمل في طرابلس على الصيدليات، ومحطات الوقود، والأفران، وخدمة الدليفري، والمتاجر الغذائية عند أبوابها. كذلك محلات الصيرفة ومكاتب تحويل الأموال. وخلا الكورنيش البحري من المشاة، كما أنحاء المعرض ومناطق المئتين والضم والفرز وعزمي ومتفرعاتهم. هذا في الشكل.

الجيش في الشوارع الداخلية

عدا ذلك، وفي بعد آخر لسلوك المدينة، فقد بدا أول يومٍ للإقفال كتجربة لجسّ نبض تعاطي القوى الأمنية والجيش مع المخالفين، إذ "نمّ" لنا عدد كبير من التجار وأصحاب المصالح في المدينة، وكذلك العمال، أنهم يترقبون الإجراءات حتى نهاية الأسبوع الحالي. وقد يبدأون باستئناف العمل تباعًا، ولو من خلف الأبواب، ابتداءً من الاثنين المقبل، أي قبل 25 كانون الثاني المقبل، "لأن الوضع المعيشي أصبح على شفير الانفجار بأي لحظة"، وفق قول أحدهم.

وفي جولةٍ ميدانية لـ"المدن"، رصدنا عددًا من المشاهد والمفارقات المتصلة بالإقفال وحظر التجول في طرابلس، التي قد تُظهر الشيء ونقيضه، في مدينةٍ يسودها السكون.. لكن الغضب يغلي تحت "رمادها"، لا سيما في الفترة الأخيرة حين تصاعدت شكوى أبنائها من تسيّب الأمن واتساع ظواهر السلب والسرقات.

المشهد الأول: من النور إلى التل
في ساحة النور التي خلت من المارة والسيارات عند مختلف مساربها، انجلت مظاهر الانكسار والخيبة تحت سمائها الملبدة بالغيوم، وكأن جدرانها المطبوعة بالشعارات والغرافيتي ومجسّم الثورة المتروك عند طرفها، تشهد باسم "الله" المتربع في وسطها، أن تلك الانتفاضة التي اندلعت ذات 17 تشرين هُزمت تماماً. وعلى الهامش، يجوز الاعتراف بسذاجة لقب "عروس الثورة"، فربما لو أسميناها "مارد الثورة" أو بركانها، لكان أخفّ وطأةً من إلصاق صفة "العروس" بغضبٍ شعبي تبدد قبل جرف سلطة أثبتت فشلًا ذريعًا حتى بإجراءات التصدي للوباء.

ساحة النور

وكما سبق أن فعلت الأجهزة الأمنية التي أزالت جميع الخيم  في ساحة النور، أفرغها "كورونا" من ناسها ومن تلك المجموعات الصغيرة التي كانت تتظاهر بين حين وآخر، احتجاجًا على جائحة الفقر. ولم يبقَ في الساحة سوى خيمة نايلونية دُّونت عليها شعارات الثورة ويسكنها الناشط فادي ابراهيم (55 عاماً)، وهي تطلّ على مبنى الغندور المطلي بالعلم اللبناني، كتوثيق لذاكرة الانتفاضة، بعد أن تحول على مدار شهورٍ لمنصةٍ يتنازعها الثائرون والمخبرون.

ومن ساحة النور نمر بشارع المصارف التي احترق بعضها وصُفّح بعضها الآخر بالحديد، وقد خلتْ جهتا الرصيف من المارة، باستثناء رجلٍ مسنٍ كان يضع كمامة ويقف أمام صرافٍ آلي، ثمّ مضى متأففًا بسرعة، وهو يقلب بطاقته التي حاول إدخالها بالصراف مرات عدة، لأسبابٍ مالية لا يجهلها أحد في لبنان.

ولدى الوصول إلى ساحة التل التي خلت من ناسها، لا نجد غير الصرافين الذين تعودوا الوقوف عند أبواب محالهم، لاصطياد حاملي الدولارات، والمنافسة على الزبائن عبر المضاربة بإعطاء "أفضل سعر"، ولو بخمسين ليرة.

صيرفة في ساحة التل


المشهد الثاني: بين النجمة والعريض
في ظاهرةٍ استثنائية، خلتْ لأول مرة متفرعات ساحة النجمة، إلى السوق العريض ومسارب طرابلس القديمة وسوق الذهب ومحيط الجامع المنصوري، وهي مساحات كانت لا تخلو من اكتظاظ العابرين حتى في أيام الإقفال السابق. إذ كان يعمل أصحاب المحلات سرًا من خلف الأبواب، لكنها كانت موصدة تماماً صباح الخميس.

لكن في الزواريب الضيقة، كان يتجسس بعض الرجال والأطفال على مشهد الإقفال من بعيد، ثم يهرعون بعد التأكد من بلوغ التأهب الأمني ذروته. فلا مجال لخرق حالة الطوارئ الصحية. وهذا الفراغ في الشوارع، دفع بلدية طرابلس لاستثناء المتعهدين، فاستأنف عدد قليل من العمال بعض أعمال الترميم في الأسواق الداخلية، لإنهاء مشاريعهم بأسرع وقتٍ ممكن.

المشهد الثالث: بين الخضار والعطارين
لعلّ ما خلفته حالة الهلع التي دبّت الشوارع في آخر ثلاثة أيام، تنجلي بين سوقي الخضار والعطارين. فمن ساعات الصباح الأولى للإقفال العام، توجه تجار الخضار واللحوم والدواجن إلى محلاتهم وبسطاتهم في الأسواق، التي ازداد خرابها خرابًا، قُبيل الساعات الأخيرة من الإقفال.

في الأسواق الداخلية

معظم الواجهات والعربات، بدت فارغةً من البضائع. أحد البائعين، كانت يقف عند بسطةٍ لبيع البصل الذي لم يبق منه إلا بعض الحبات العفنة. قال لـ"المدن": "عشنا 3 أيام من الجنون لم نشهدها حتى في شهر رمضان وعشية الأعياد، وشعرتُ كأنها أيام الحشر قبل القيامة". وذلك بسبب هرع الناس إلى الأسواق والمتاجر الغذائية، ليشتروا بكميات كبيرة فاقت حاجتهم لتخزينها في المنازل.

ثم أتت نحونا سيدة تدعى أم فراس، من باب الرمل، كانت تفتش في السوق عن طلبها بين بقايا الخضار التالف، وشكتْ لـ"المدن": "عدد كبير من الفقراء والمحتاجين مثلي لم يبق لهم خبز ولا خضار في السوق بسبب فئة من الناس اشترت كميات ضخمة من دون التفكير بغيرها، وقد شجعوا التجار على استغلال الأوضاع ورفع الأسعار لمستويات لا يصدقها العقل". ثم تساءلت مستنكرةً: "من يصدق أن يصبح كيلو الخيار بستة آلاف وكيلو البندورة بخمسة آلاف ونحن مدخولنا اليومي لا يتجاوز 20 ألف ليرة؟".

القليل من البصل


المشهد الرابع: من أبو علي إلى باب التبانة
من نهر أبو علي الذي خلا من تجار الخضار والعربات المتنقلة، توجهنا إلى باب التبانة التي يعيش أبناؤها في عالمهم الخاص. من شارع سوريا إلى ساحة الأسمر ومتفرعاتها، يبدو أن العشرات لم يسمعوا بالإقفال العام، أو على الأرجح لا يكترثون له، وهم يعبرون الأحياء الضيقة بحركةٍ شبه طبيعية من دون كمامات. ومع ذلك، يمكن القول أن نسبة الإلتزام بالحجر في باب التبانة تجاوزت 50% لأول مرة. فعلى شرفات أبنتيتها المتهالكة من شظايا الحروب والرصاص، يخرج النسوة والرجال لمراقبة حركة التجول في الشارع، بينما اختار بعض الأطفال المحرومين من فرصة التعلّم عن بُعد أن ينزلوا إلى الحارات للعب سويًا، ثم يركضون باتجاهات مختلفة فور مرور دورية أمنية، كما كان يفعل آباؤهم خلال جولات العنف مع جيرانهم في جبل محسن.

صحيح أن الكآبة التي يجلبها الإقفال العام تخيم على لبنان، لكن في طرابلس تتحول تلك الكآبة إلى مزيج يأس مضنٍ وغضب مكبوت. وكأن وعد التمرد ما زال قدر هذه المدينة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024