شبعا ومزارعها.. مرآة الغثيان اللبناني (2 من 2)

محمد أبي سمرا

السبت 2019/05/04
يستعيد بعض الساسة اللبنانيين اليوم مسألة مزارع شبعا في تصريحاتهم وتغريداتهم، بعد إقدام إسرائيل على ضم هضبة الجولان السورية المحتلة منذ العام 1967 إلى أراضيها واعتبارها إسرائيلية. وكانت خطبة حسن نصرالله مساء الخميس 2 أيار، واضحة في تلك "العودة" إلى المزارع وما بعدها..

العسف السوري والتخلي اللبناني
في الأربعينات بدأت عذابات أهالي مزارع شبعا على يد المخابرات السورية، بعدما كان وضعهم عاديًا وطبيعيًا قبل استقلال سوريا ولبنان عن الانتداب الفرنسي. وتزامنت عذاباتهم مع بدء موجات هجرتهم من المزارع والقرية إلى الكويت في مطالع الخمسينات. ويروي أهالي شبعا قصصًا كثيرة عن لجوئهم إلى السلطات اللبنانية لحمايتهم من العسف السوري بإقامة مخافر لبنانية في مزارعهم، لكن تلك السلطات اتبعت كعادتها دفن رأسها في الرمال تغاضياً عن المطالبات، ما دام المطالبون أهالي قرية حدودية جنوبية، بل في أقصى حدود لبنان الشرقية المتاخمة لسوريا. وحتى العام 1958 كانت تحضر إلى المزارع دوريات قوى الأمن الداخلي اللبناني في جولات شكلية متقطعة، رفعًا لعتب الأهالي. ولم يكن من حضور للأمن السوري في المزارع، إلا حينما كانت قوافل تجارة مهربي شبعا على البغال تجتاز الحدود اللبنانية وتصل إلى حوران والجولان، وقبلها إلى فلسطين، فيطاردهم في الجولان وحوران رجال الأمن والمخابرات السورية، ويقودونهم إلى القنيطرة.

وعام 1958 لم يدرك أهالي شبعا أن "الثورة" التي ساروا في ركابها ضد عهد كميل شمعون الرئاسي، سوف تبدأ بتقويض أركان حياتهم الزراعية والرعوية في مزارعهم وبلدتهم. ففي أيام تلك "الثورة" وفد إلى شبعا مسلحون سوريون وراحوا ينظمون بعض شبانها في ما سموه "المقاومة الشعبية". ولا يزال اسم "علي الوحش" الذي يقولون إنه بدوي، حيًا في ذاكرتهم. فهو من أدار "المقاومة" في البلدة والمزارع، واقتاد زوجات "السوريين القوميين" الفارين من شبعا إلى مرجعيون، وأخذهن إلى بيت في المزارع واحتجزهن فيه طوال أسبوعين. وعندما اعترض وجهاء شبعا على تلك الفعلة اقتيدوا إلى القنيطرة وتعرضوا للإهانة والضرب. وقام "علي الوحش" أيضاً باختطاف معلم مسيحي قومي سوري من بلدة إبل السقي ويدرس في شبعا، وقتله في المزارع، وفجر في ساحة شبعا سيارة قومي سوري آخر.

وإذا كان أهالي شبعا قد احتفلوا في نهاية "الثورة" في ساحة بلدتهم هازجين أهازيج النصر ضد نوري السعيد وكميل شمعون، وتأييداً لجمال عبد الناصر، فإنهم لم يدركوا أن رجال الأمن السوريين سوف ينشئون مخافر لهم في مزارع شبعا كانت مهمتها تجنيد الرعاة مخبرين يراقبون سواهم من أهل بلدتهم حفاظًا على "الأمن القومي العربي" ضد إسرائيل. وكانت حجة السلطات السورية في ذلك أن السلطات اللبنانية أقرّت بضعفها وبعدم حماستها للعروبة، وبعزوفها عن حماية تلك المنطقة الحدودية المتاخمة للدولة العبرية. وهكذا توقفت دوريات قوى الأمن الداخلي اللبناني عن الوصول إلى المزارع، وتركتها في عهدة المخافر السورية التي يندر ألا تحفظ ذاكرة أي من الشبعاويين حكاية، بل حكايات مريرة لا تحصى عن التسلط الذي ألحقته بهم تلك المخافر. ومنذ مطلع الستينات راح الحذر والخوف والريبة يراود كل من يجتاز بيادر شبعا إلى مزارعها، إلا رعاة الماعز الذين كانوا يكثرون من إطعام رجال المخافر السورية من ذبائحهم، ويجلبون لهم المياه على البغال من نبع بانياس في سوريا، وأحيانًا ينقلون لهم نساءهم من الديار السورية لينزلن في ضيافة الرعاة وكرمهم المرغمين عليه. وحتى هزيمة حزيران 1967، ظل الوضع في المزارع مريبًا، إلا في مواسم قطاف الزيتون التي يقيم الأهالي في أثنائها أسبوعين في مزارعهم من دون أن يروعهم رجال المخافر. وحين أخذ رجال المقاومة الفلسطينية يرابطون في شبعا وبساتينها، وراحت دورياتهم الاستطلاعية تصل إلى المزارع ويقيمون الكمائن فيها، وينطلقون منها في بعض عملياتهم، بادرت إسرائيل إلى قضم المزارع واحدة تلو أخرى، حتى وصلت أخيراً إلى تخوم شبعا، فأقامت هناك شريطًا مكهربًا وطردت الفدائيين الفلسطينيين من قواعدهم ومكاتبهم في البلدة، وهجّرت ما تبقى من أهالي المزارع وهدمت منازلهم فيها. والموجة الأخيرة من مهجري المزارع الذين لا يملكون بيوتًا في شبعا، أقاموا خيمًا في بساتينها الغربية ومكثوا فيها صيفًا في انتظار تدبر أمورهم للهجرة إلى الكويت أو إلى صحراء الشويفات قرب بيروت، واستمر نزيف الهجرة من شبعا إلى الخليج العربي وضواحي بيروت طوال السبعينات والثمانينات.

الباطون واليباب
الثمانينات والتسعينات كانت وبالًا عمرانيًا على شبعا نفسها، واستمر ذلك الوبال حتى الساعة. فمن ما حصله مهاجروها في بلدان الخليج وبيروت (وهم معظم سكانها) لم يجدوا شيئًا يفعلونه بتلك الثروات المالية الصغيرة والكبيرة، سوى تشييد بيوت من طبقات ثلاث أو أربع على بيوتهم الحجرية التقليدية القديمة، على منوال العمران في حي السلم، وسرعان ما تحول عمران البلدة إلى ما يشبه عمران الأوزاعي العشوائي. ثم راح بعض الأثرياء من المهاجرين يشيدون قصورهم على التلال المتاخمة للبلدة، وتشارك الجميع على قضم أراضي المشاع البلدي كله، ونشبت بينهم جميعاً خلافات وشجارات لا تنتهي، فيما كانت بساتين البلدة المجاورة تتعرض للهجران والخراب واليباس، وتسرب مياه الصرف الصحي المبتذلة والمتكاثرة إلى مياه الينابيع. وأشجار الجوز وأجماتها على مجاري النبعين الغزيرين اصفرت وماتت. وبعد جلاء الجيش الإسرائيلي في العام 2000 من الشريط الحدودي المحتل، تراكمت في محاكم حاصبيا مئات الدعاوى القضائية بين أهالي شبعا، بسبب منازعاتهم ومشاجراتهم على اقتسام أراضي المشاع البلدي. وشبعا اليوم في عمرانها مرآة للعمران اللبناني في الحرب (1975-1990) وما بعدها: قصور لا لزوم لها، وبنايات عشوائية مثل أحياء حي السلم، وسيارات دفع رباعي مزدحمة في طرق ضيقة، وتلوث في مياه الينابيع، وباطون زاحف في الأرجاء كلها.

ومنذ العام 2012 وصلت موجات اللاجئين السوريين من حوران (تحديداً بلدة بيت جن السورية) إلى شبعا، حتى بلغ عددهم فيها حوالى 6 آلاف لاجئ نزلوا مستأجرين في بيوتها الكثيرة الخالية. ومنذ سنتين راح يتناقص عدد أولئك اللاجئين، وبقي منهم نحو ألفي لاجئ، يعملون في تشييد البيوت في شبعا وفي استصلاح بعض بساتينها البائرة.

وحدة المصير والمسار
في الخطابة والتصريحات العامة والرسمية عن ضياع مزارعهم، يتناسى أهالي شبعا حلقة أساسية من تاريخ المزارع وملابسات ضياعها، ويتكتمون عليها. وذلك على خلاف ما يفعلونه في أحاديثهم الخاصة في ما بينهم. والصحافة والهيئات السياسية اللبنانية تذهب غالب مذهبهم في هذين التناسي والتكتم. أو أنهم هم أنفسهم تعلموا من الهيئات السياسية الرسمية والصحافة إسقاط تلك الحلقة وكتمانها والتستر عليها. والحلقة "المغيبة" هذه تمتد بين العام 1955 و1967. ففي هذه السنوات كلها لم يكن للدولة العبرية وجيشها أي حضور يذكر في التحولات التي أصابت علاقة أهالي شبعا الكثيرة. أما الحاضر الأكبر والأساسي فكان عسف الأمن السوري. والسبب في تغييب ذلك العسف وحلقته هو "الحفاظ على وحدة الصف العربي" المزعوم، والتي أمست "وحدة المصير والمسار" بين سوريا الأسد ولبنان الساحة الوحيدة للمقاومة، من "فتح لاند" إلى دولة "حزب الله" الراهنة.
(انتهى)

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024