حادثة بين مواطن وشبّيح: هذه السلطة لا تُواجَه بالورود

أيمن شروف

السبت 2019/11/30

تقف يوم الخميس 28 تشرين الثاني 2019، الساعة الثانية من بعد الظهر، على مدخل شارع الجميزة، سيارة من نوع رانج روفر ديسكافوري لونه أسود، في منتصف الطريق. يترجّل منها رجل خمسيني، بلباس نصف رسمي. يقف، يتأخر، يأخذ وقته، وكأن الشارع ملكه. أضرب بوق السيارة طالباً منه الاستعجال، فيدور الحديث الراقي التالي. بالتفصيل وبالعامية كما جرى:

- مسكّر الطريق عالعالم.

* بعرف وما خصك. يومئ بيده.

- مسكّر الطريق ومعتبر الحق معك؟

* يلا روح من هون.

- ما بدي روح، واحكي باحترام.

* كول خـ(..) يلا من هون.

أصبح قريباً من السيارة على مدخل "بول" في الجميزة.

- إنت واحد بلا أخلاق.

* يلا ولاه..

المرافق الهزيل
حاولت أن أستوعب الموقف وأحدثه بطريقة هادئة قائلاً "إنت من عمر الوالد لو بعده عايش، ما بتستحي على حالك تحكي هيك". ليأتي ردّه وهو يبتسم بطريقة أقرب إلى الاستهزاء، حاملاً الكثير من السياسة، ومعبّرا عن حنقه وموقفه الجلي من الثورة: "ليك هالدقن، بعدين كتير قويانين إنتو هالإيام".

إذاً المشكل أكبر من شخص ما قال له إنه يخالف القانون. ولا شعورياً، وجدت نفسي أردد بصوت عالٍ أقرب إلى الصراخ: "طبعاً قويانين كرمال يكون في قانون يربي ناس متلك مش يكبرلها راسها".

يقترب هنا عناصر الدرك والجيش المنتشرين على مدخل الشارع. بعدها، يترجل مرافقه (رجل خمسيني وهزيل) ويقترب نحو السيارة ويقول: يلا ولا من هون، مينك لتحكي هيك.

- أنا مواطن عادي وبحكي متل ما بدي، وإنت ومعلمك بلا أخلاق.

* فل من هون أحلى ما تشوف شي ما بيعجبك.

- بتخالف القانون وبدك تربيني؟!

تحمس المرافق كثيراً ليُثبت ولاءه لمعلمه. مشى نحو نافذة السيارة ومد يده إلى داخلها محاولاً صفعي على وجهي، تمكّن من لمسي قبل أن يُبعده عنصر الجيش. أحاول النزول كونه استفزني، فيمسكني صديقي نادر من يدي ليمنعني "أيمن شو بدك فيه خلص". في تلك اللحظة، وبكل بساطة، لم يكن هناك أي رادع أمامي ليمنعني من ألقنه درساً غير آبه للنتائج، طالما من هم في وجهي مجموعة من الشبيحة تمارس تشبيحها علناً، وقوى الأمن تقف متفرجة مانعة الاحتكاك، من دون أي اكتراث لما يجري من تحقير للناس والدولة والقانون.

سيارة "حكومية"
حرص عناصر قوى الأمن على بقائي في السيارة. خرج من مطعم "بول" رجل يظهر أنه يعمل هناك طالباً مني أن أهدأ، ومن ثُم طلب الأمن من المرافق أن يذهب. إلى جانبي نادر يُردد "ما بدنا نعمل مشكل هلق". يدخل الرجل إلى المطعم بكل فخر طبعاً، يذهب المرافق ليركن السيارة بعد أن أدى فرضه على أكمل وجه. على جانبي عناصر من الجيش يقفون أمام باب السيارة، يضرب أحدهم عليها مردّدا: "خلص خلصت". رحلت وأنا غير مدرك للموقف. لماذا تركت رجلاً يعتدي عليّ لفظياً وآخر جسدياً من دون أي حساب موازٍ لما اقترفاه. أكملت طريقي وعلامات الغضب تظهر جلياً على وجهي. وصديقي يحاول أن يخفف من هول ما حصل، كي يبقى رد فعلي محدوداً.

قبل أن يرحل المرافق، التقط نادر صورة للسيارة، حاولنا أن نعرف لمن هي تابعة، عبر تطبيق متخصص في كشف هذه الأمور، تبيّن بعد البحث أنها تابعة لمرجع حكومي. غير معروف من هو لكنه "حكومي"، رجل سلطة، من لوحات السيارات التي توزعها وزارة الداخلية على رجال السلطة. وهذه اللوحة تحديداً تابعة لتيار سياسي معادٍ للثورة. هنا انقلب كل شيء فيّ، وتكرّر سؤال واحد في رأسي: كيف لم أواجه هذا التشبيح بتشبيح مقابل؟

ما حصل أمام "بول" معي، قد يحصل مع أي واحد منّا. هؤلاء نموذج واضح لهذه السلطة التي حوّلت القانون إلى مطية للاستقواء على الناس. هذا الرجل مثال على غالبية الطبقة التي تحكمنا، والتي تعطي لنفسها الحق بأن يكون القانون وسيلتها للتشبيح، للسرقة، للعنف ولرد اعتبارها السياسي، في ظل ما يجري، عبر فرض سيطرتها من خلال أسلحتها ومرافقيها في الشارع. من هم هؤلاء؟ هم شبيحة، يتحكمون بكل مرافق الدولة، هو نفسه هذا منعدم الأخلاق، بشخصيات مختلفة، يسيطر على كل شيء في البلاد، عقلية كهذه هي الوحيدة التي تحكمنا. العقلاء والآدميون في هكذا دولة، لا يستطيعون أن يُغيّروا شيئاً، هم مغلوب على أمرهم أساساً، لأنهم طبعاً غير منتمين إلى حزب، وإن انتموا فهم لا ينفعون حزبهم. السلطة للأحزاب الحاكمة، هي القوّة والوجود بحد ذاته. شعبهم يمشي خلفهم لأنهم أقوياء ويستقوون بالقانون..

الرد الثوري
وسط كل هذا الواقع المزري، يخرج من يسأل أو يُشكك بخلفيات هذا الثورة. وآخرون يشيطنون كل من يطالب بحقه، على أساس أنهم لا يُعبرون عن سخطهم، بل يُنفذون سياسة جيفري فيلتمان المتنقل في مخيلتهم بين ساحات الثورة من صور إلى طرابلس وغيرهما. ثم أيضاً، يخرج من يعتب على الناس المنتفضة لأنها تقطع الطرقات، وآخر يعتبر أن نهاية العالم وخلاصنا يكمن في مشهد الشياح وعين الرمانة، الذي على الرغم من أهميته، يبقى مشهداً يتيماً ينتهي بعد أن ينفرط عقد من يكترثون للحياة.

هذه السلطة لا تواجه بالورود ولا بالمحبة. هذا التشبيح لا يواجه باللّين. هؤلاء يواجهون بقطع الطرق، بالدخان المتصاعد من حرق الدواليب، بتصعيد ثوري يوازي تشبيحهم وخبثهم. يواجهون بتسكير المرافق التي يستخدمونها ليُكبروا من ثرواتهم وليزيدوا من قدرتهم على البطش وعلى التحكم بمصائر الناس وتسييرهم على سجيتهم. لكن الفارق الوحيد في هذه المواجهة بيننا وبين السلطة، أن التصعيد في مقلب الثورة هدفه بناء دولة، هدفه استعادتها من هؤلاء. أما تشبيحهم فهو بلا شك، ليُكملوا علينا وعلى ما تبقى من دولة..

قبل أيام حين حاصر الناس مجلس النواب ليمنعوا تمرير قانون يعفي المتسلطين من تبعات ما اقترفوه طيلة 20 عاماً، اقتحم موكب لوزير أو لنائب الناس العزل وأطلق النار غير آبه بالنتائج. هي البلطجة نفسها ولكن بدرجات. مثلاً ما الذي كان يمنع هذا الشبيح الصغير مرافق الشبيح الكبير لو استطعت أن أخرج من السيارة أن يتناول مسدسه ويطلق النار اتجاهي؟ لا شيء. ما الذي منع شبيح صغير مرافق لضابط من أن يقتل علاء أبو فخر أمام عائلته؟ لا شيء. من هو العدو؟ هؤلاء، من أكبرهم إلى أصغرهم.

ولهذا العدو، جملة واحدة: "أني بدّيش وصلّوا رسالة".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024