الـ"فاليه باركينغ".. الرفاهية المكلفة غصباً عنك

منى حمدان

السبت 2019/01/12

عملهم "يزدهر" ليلاً. ينتشرون في زوايا المدينة ليل نهار. عيونهم تلاحق السيارات وأصحابها. يحتلّون الأملاك العامة والطرقات والأرصفة. يطلّون برؤوسهم حين يلمحون السيارة، أو "الغنيمة"، بالأصح.

تصل إلى مكان السهر أو المطعم أو المقهى، يسارع الشاب، موظف الفاليه باركينغ، يأخذ سيارتك. ترتاح من مشقّة التفتيش عن مكان للركن، وهي المهمة الأصعب في لبنان، وفي بيروت خصوصاً. لكن قد تسأل نفسك: إذا كان إيجاد موقفٍ للسيارة صعباً جداً، كيف يتمكن هؤلاء من إيجاد مكان؟.

شكاوى يومية
تكثر شكاوى اللبنانيين، منذ سنوات، من ظاهرة مافيا شركات الركن، وعلاقتهم بها يشوبها الحذر، أشبه بالعلاقة القسرية. فهم مضطرون إلى التعامل مع هذه الخدمة. وهي منذ سنوات طويلة تنتشر، وتتغلغل في حياة اللبنانيين، من دون انتظار علمهم أو إذنهم أو رغبتهم أو قبولهم. وأصبح توظيفهم ضرورةً، فما الذي يجذب زبوناً لمتجر أكثر من القيام عنه بالمهمة شبه المستحيلة؟ هم يعتبرون أنهم يبيعون الزبون نوعاً من أنواع الرفاهية، "واللبنانيون يحبون الرفاهية والتفاخر بطبعهم"، كما قال لي أحد هؤلاء الموظفين.

وهو لم يخطئ. اللبنانيون يحبون استعراض مكانتهم الاجتماعية، والمبالغة في مظاهر الترف. لكن شركات الركن يبيعون الهواء إلى الناس في الحقيقة، ويجبرونهم على دفع مبلغٍ ليس بقليل، ثمناً له. وهذا، في حال تخيّلنا أن هذه الشركات جميعها تلتزم بقرار تحديد التعرفة، بخمسة آلاف ليرة لبنانية. القرار الذي لم يصمد في بيروت طويلاً، وسقط أمام اتفاق ما، يبدو أنه حدث بين الوزير وأصحاب الشركات. فباتوا يتجرأون على طلب عشرة آلاف ليرة لبنانية وأحياناً أكثر.

"مخالفات لا تحتمل"
"مخالفات شركات الفاليه باركينغ أصبحت لا تحتمل، ويجب أن تتوقف!"، قال محافظ بيروت القاضي زياد شبيب للمدن. شبيب أكد أنه ليس في حاجةٍ إلى أي إثبات على تجاوزات شركات الركن. وأضاف أن "الممارسات التي أراها بعيني، ويراها المواطنون يومياً، دليل واضح على خرق القرار المشترك رقم 1536، الخاص بتنظيم عمل راكني السيارات. نراهم بالعين المجرّدة يركنون سيارات الزبائن في أماكن عامة هي ملك للناس، وهذه مخالفة صريحة".

هي ليست مخالفة وحسب، بل احتلال فعلي للأملاك العامة. فهذه الشركات ليست سوى جزء من المنظومة الحاكمة الغارقة في فسادها ومذهبيتها. والتراخي الذي تبديه قوى الأمن، ممثلة بشرطة بيروت، في قمع المخالفات، يملك محافظ بيروت دليلاً عليه. إذ يقول: "ألاحظ دائماً أن محاضر المخالفات التي تنظمها المراقبات الأربع، التابعات لمصلحة المؤسسات المصنفة، أكثر من المحاضر التي يكتبها عناصر شرطة بيروت. مع أن هذا دورهم في الأساس، لكنهم لا يقومون به كاملاً، والدليل واضح. وقد يكون تراخيهم في قمع هذه المخالفات سببه وجود أولويات أخرى لديهم. لكن هذ الموضوع يجب أن يكون أولوية. لم يعد مسموحاً لهذه الشركات، أن تحوّل حاجة اللبنانيين إلى خدمتها، إلى شكل من أشكال الاحتكار والاستبداد".

التعرفة في بيروت لم تحسم بعد
موضوع التعرفة الموحّدة لهذه الشركات يثير جدلاً منذ تموز 2017، تاريخ صدور القرار 1569، عن وزيري السياحة والداخلية، وتحديدها بخمسة آلاف. يومياً يُطلب من زبائن العاصمة مبالغ تصل أحياناً إلى خمسة عشر ألف ليرة، بحجة أن وزير السياحة أصدر كتاباً برفع تسعيرة بيروت.

رئيس مصلحة المؤسسات المصنّفة، المهندس باسم عويني، أوضح في حديث لـ"المدن" أن لا كتاب رسمي، ولا قرار رسمي حتى الساعة، باعتماد تعرفة عشرة آلاف في بيروت. وقال عويني إن "وزير السياحة، بناءً على اعتراض من شركات الركن، بحجة ارتفاع أسعار العقارات في العاصمة، رفع كتاباً إلى وزير الداخلية يقترح فيه زيادة التسعيرة في بيروت إلى الضعف. والقرار يجب أن يصدر عن الوزيرين ويحمل توقيعهما معاً. نحن كمصلحة لم نبلغ بأي رد أو موافقة من وزير الداخلية على الكتاب. وطالما نحن لم نبلّغ بأي زيادة رسمية على التسعيرة، فهي مخالفة".

وتساءل: "على أي أساس يستخدمون كتاب وزير السياحة حجة لرفع التعرفة؟ أين توقيع وزيري الداخلية والسياحة على هذا الكتاب؟ أين القرار الذي صدر رسمياً برفع التعرفة في بيروت؟". لا يوجد. إلا أنه أشار إلى أن لديهم توجيهات بالتغاضي عن مخالفة التعرفة الموحدة في بيروت، إذا لم تتخط الثمانية آلاف ليرة. على اعتبار أن الموضوع قيد البحث والدراسة، ولم يحسم بعد بين الداخلية والسياحة.

خطوط تماس
لم نعرف لماذا خمس عشرة شركة من أصل سبعين فقط مرخصة، وكيف تعمل بقية الشركات من دون ترخيص. ولم نعرف لماذا لا يحاسبون على احتلالهم أملاك الناس العامة، وخرقهم قرار قانون السير 1536 وعدم إيقاف السيارات في الأملاك العامة. ماذا عن التزامهم بالحد الأدنى للأجور والضمان الاجتماعي للموظفين؟ لا جواب.

الموظف الشاب الذي قابلناه، قال إن الانتساب إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في الشركة، حيث يعمل، ليس للجميع. هو ليس مضموناً، فقط من يعملون فيها منذ سنوات يتم تسجيلهم. الرواتب أيضاً متفاوتة وغير موزعة بطريقة عادلة، وتبدأ بخمسمئة دولارٍ أميركي في الشهر فقط. وعلى الرغم من أنه لم يعترف بأنه ارتكب أي مخالفة بنفسه، إلا أنه أشار إلى أن تذمّر المواطنين لم يأتِ من فراغ. وأضاف: "هذه الحوادث تقع يومياً، موظفون يفتشون في سيارة الزبون، منهم من قد يسرق شيئاً من محتوياتها. ومنهم بالطبع من يأخذ السيارة في نزهة صغيرة". ثم سأل: "ما الضرر الذي يسبّبه شاب إذا أخذ سيارة الزبون الفارهة، التي لا يحلم باقتناء مثلها، في جولةٍ سريعة؟".

ربما يختصر سؤاله عقليّة السيستم القائم في لبنان، الذي يتألف من مجموعة مافيات وعصابات، تحتكر حقوق المواطنين، تقدمها لهم على شكل خدمات وسلع، وتتقاسم المكاسب على الطريقة اللبنانية. طريقة خطوط التماس القديمة نفسها، حسب المناطق والطوائف والمذاهب. لكل مافيا جيش غير منظم، ينتشر أعضاؤه في الأحياء والشوارع، يستولون عليها، وعلى الأرصفة، والمساحات العامة. ينتهكون المواطنين وحياتهم وممتلكاتهم يومياً، فما الضرر الذي قد يحدثه ذلك؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024