الموت المنتشر على طرقات لبنان: جسر البالما يقتل شابتين

جنى الدهيبي

الإثنين 2019/09/09

لبنان العالق في أزماته ونفاياته، عالق أكثر فأكثر بمصيدة الموت على الطرقات. الحديث عن "تراجيديا" الموت في حوادث السير، أصبح جزءًا من يومياتنا البائسة. بالأمس مثلًا، أفادت إحصاءات غرفة التحكم المروري للحوادث، عن سقوط 5 قتلى و25 جريحًا في 21 حادث سير خلال 24 ساعة من يوم السبت 7 أيلول 2019! وهذا غيضٌ من فيض، في بلدٍ قد يموت فيه المئات على طرقات نائيةٍ ووعرة من دون أن يدري بهم أحد.

أرقام حوادث السير التي تحصيها غرفة التحكم المروري، وكذلك "أليازا"، تبدو مخيفة للغاية، وجلّها يجري ربط أسبابها بالسّرعة وعدم التقيّد بإشارات المرور.

نحن السبب!
لا شكّ أنّ نسبة الحوادث في لبنان مرتفعة وغير منطقية قياسًا لعدد سكانه. أغلب الضحايا شبان وشابات لم ينهوا العقد الثاني من عمرهم، فيما نسب الموت على طرقاتنا في اتجاهٍ تصاعديّ مرعب. من جهة، لا تكترث الدولة للفلتان المستشري على طرقاتٍ مهترئة في بنيتها، ولا تبادر لحلٍّ جذريٍّ يكون على مستوى الكارثة، ومن جهةٍ أخرى، تستغلّ فئة من اللبنانيين غيبوبة الدولة، لممارسة هواية الفوضى والسرعة الجنونية وانعدام المسؤولية، من دون أن حسبان لتبعات هذه "الهواية" اللعينة، ومن دون أخذ العبر من حوادث دامية ذهب ضحيتها الآلاف.

يومٌ واحد من التجول في إحدى طرقاتنا من الشمال حتّى الجنوب، قد يكون كفيلًا لنرى فيه العجائب. أوتوسترادات تتحول مسرحًا لمحبي السرعة، عدم احترام اشارات المرور (إن وجدت في معظم المناطق)، سيارات أجرة تتوقف من دون إشارةٍ أو إيماءةٍ لتصيّد الزبائن قبل غيرها، "فانات" تكاد تطير من سرعتها حتّى داخل المناطق المأهولة سكنيًا، سائقو دارجات يقفزون فوق السيّارات، وبعض المشاة "المسرعين" وغير المتنبهين لما حولهم،  يرمون أنفسهم على الطرقات وبين المركبات من دون حسيب ولا رقيب، ناهيك عن الأزمة التي تختلقها ثقافة "الصفّ الثاني" من ضيقٍ في الطرقات ينتج عنه الحوادث.

كلّ هذه السلوكيات، التي أصبحت ثقافةً ونمطًا معاشًا، لم تأتِ من عدم، وهي نتيجة فسادٍ مستشرٍ بكلّ مرافق حياتنا، لدرجة تحولت القيادة في لبنان، إلى ميدانٍ إضافيٍ لإظار القوّة والتّباهي بالسلطة أو "الدعم" منها. كثيرون يقودون سياراتهم من دون رخصة قيادة، وآخرون وصلتهم الرخصة "هدية" إلى بيت من دون الخضوع للامتحان القانوني، وغيرهم لا نعرفهم ولا يعرف أحد من الدولة عنهم أيّ شيء، لأنهم يتمترسون خلف زجاجهم "الفوميه"، أو يبرزون بطاقة "حزبية" أو "أمنية" تحميهم من "شرّ" التفتيش أو السؤال عن أوراقهم الثبوتية. ليست هذه الأمور تفاصيل عابرة، إنّما هي أصلٌ أساسيّ من المشكلة، وكلّ ما يتحججون به هو التفاصيل التي لن ينهي حلّها أسباب موتنا على الطرقات.

وفي دولةٍ غير مؤتمنة على بيئتنا وصحتنا وأرواحنا، ولم تفكّر بعد بوضع مجرد خطط استراتيجية تعطي الأولوية فيها للتدابير الكفيلة بتدني نسبة الموت الناتجة عن حوادث السير، هناك مئات من المواطنين الذين يقضون موتًا في هذه الحوادث، ولا ذنب لهم غير أنّهم يعبرون على طرقات مهترئة في بنيتها، ومحفوفة بالمخاطر، أو لأنهم اصطدموا بسرعة من لا يخشى على حياته ولا على حياة الآخرين.

فاجعة في عكار
آخر الكوارث المفجعة، وقعت الأسبوع الماضي، برحيل شابتين من عكار، وهما نادين محمد وريان المقصود، في حادث مروعٍ بعد عودتهما مساءً من عملهما، عند جسر البالما باتجاه مدينة طرابلس. هذا الجسر، الملقب بـ "جسر الموت"، لا يمرّ يوم من دون أن يصطاد أرواحًا تعبره، لدرجة قد يستحق الأمر أن يُعلّق على أحد أعمدته صورةً جامعةً لمن رحلوا عليه، تخليدًا لذكراهم.

هذا الحادث الأليم، وكحال غيره من الحوادث على جسر "البالما"، كان نتيجة انحرافٍ للسيارة التي تستقلها الشابتين عن مسلكها، واصطدامها بسيارةٍ أخرى على المسلك الآخر من الجسر، ما أدى إلى إصابات خطرة آلت إلى وفاتهما على الفور.

يمكن لجسر "البالما"، أن يكون نموذجًا عن جسورٍ أخرى خطرة في لبنان، يموت عليها المئات من دون بذل أيّ جهدٍ رسمي لمعرفة الأسباب التي آلت ليكون أحد الجسور أو المعطفات عبارة عن كمائن للموت ومصيدة لعابريها.

فكيف أصبح جسر "البالما" جسرًا للموت ؟
يشرح رئيس اتحاد حوض المتوسط للمعماريين UMAR المهندس وسيم ناغي، وهو صاحب مكتبٍ هندسي، الأسباب التقنية والهندسية التي حولت جسر "البالما" إلى جسرٍ للموت والحوادث. فـ"منذ تاريخ تخطيطه، وهو على شكل حرف S أيّ فيه انعطافتين وراء بعضهما البعض، في أقلّ من كيلومتر واحد. إذ هناك أول انعطافة، وثاني انعطافة، وفي النصف موقع الجسر". هندسيًا، الانعطافتان القريبتان، بحسب ناغي، يشكلان خطرًا كبيرًا وفق علم النقل والتخطيط. وإذا كان لا بدّ منهما، يجب أن يكون هناك  Super Elevation، أيّ أن يميل كلّ منعطف عند المركز، حتّى يمنع قوّة دفع السيارة للسرعة، وحتى لا تخرج عن مسارها". يقول ناغي: "انحدار الجسر، وخطّاه القريبان، ووصلاته التي تعاني من مشاكل كبيرة، وعدم توفر إشارات تنبيه، جعلت منه جسرًا للموت".  

الخطأ الكبير، "هو في السرعة. هذا الطريق، سرعته القصوى 100 كيلو متر في الساعة. ومن يقودون سياراتهم على الجسر، لا يدركون خطورة هذا المسار، وأغلب الحوادث تنتج عن فقدان السيطرة على السيارة، وهي غالبًا كانت تقع بين الجسرين، أو تسقط من جنب لآخر".

لاحقًا، "وضعوا شبك، لكنه تحول إلى منحدر، وأصبحت السيارات حين تفقد سيطرتها تمشي على الشبك وتقع من الاتجاه الآخر. كل ذلك كان عملية تخبط، فوضعوا بعض العواكس، وإشارة تدل على سرعة السيارات".

حلول مؤقتة لتصميم خاطئ
يشير ناغي أنّ مكتبه اقترح حلًا، وهو سريع وعملي، لا سيما بعد تكاثر ضحايا الجسر، ومعظمهم من أعمارٍ فتيّة لا تدرك معنى المخاطر الناجمة عن السرعة وفقدان السيطرة على السيارة". الحلّ هو "خفض السرعة القصوى على هذا التقاطع، خصوصًا أنّ طريق الجسر تبدأ من دوار الميناء، وهناك السرعة 80 كيلومتر، واقترحنا أن تبقى السرعة على الجسر بحدود الثمانين، لغاية اجتياز المنعطفين، أي تجاوز حرف S". يضيف: "بيروت الكبرى، من كازينو لبنان حتى المطار، لا تتجاوز السرعة فيها الـ 80. لماذا لا يتداركون الأمر على هذا الجسر؟

ومن الاجراءات الاحترازية، وهي غائبة عن هذا الجسر، تكون وفق ناغي بضرورة وضع رادار ثابت واشارات له على امتداد الجسر، حتى يراه السائقون ويخشون منه. هذا الرادار، مع اشارات واضحة وإنارة ليلية مكثفة، لا سيما أن المخاطر تزداد أثناء الليل وخلال موسم الأمطار، يمكن أن تنحسر مع هكذا تدابير نسبة الحوادث عند هذا الجسر". وهذا الاقتراح، "ليس مكلفًا، ويمكن تنفيذه بسرعة. أما تغيير مسار هذا الجسر، فهو أمر غير وارد حاليا، لأنه مكلف جدًا، ويحتاج لاستملاكات يستغرق تنفيذها سنوات طويلة".

وفي الأصل، ثمة خطأ هندسي في تصميمه وتنفيذه، "إذ كان يجب أن يكون الجسر مستقيمًا، وجرى تحويله بهذا الشكل الهجين. كما أنّ تنفيذه لم يكن بالمستوى المطلوب، لتفادي خطر فقدان السيطرة على السيارة، وهذا موضوع آخر".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024