في بيروت: مشاهد موت غير معلن

نادر فوز

الأربعاء 2020/06/24
عبد الله م. سائق يعمل مع إحدى تطبيقات سيارات الأجرة. نزل من منزله عند الثامنة صباحاً، وعاد إليه عند الثامنة مساءً. جنى 22 ألف ليرة فقط. أي بأحسن أحوال الصرف الرسمي المزعوم 6.8 دولارات، وفي الواقع 3.6 دولارات. أرقام التطبيق لا تكذب، ولا أمواله المحوّلة، لكن الأوضاع هي الأشبه بالكذب. كل ما بات يحصل في يومياتنا، بات أشبه بالكذب. في الشارع، على شاشات التلفزة، في خطابات السياسيين، في الأسعار، كل هذا أشبه بالكذب. نعيش كل هذا على أمل أن يرفع أحدهم الإضاءة عنا، ليقول لنا أكلتم الطعم ووقعتم في مقلب ظريف، "تعيشوا وتاكلوا غيرها".
لكننا نعلم أنّ هذا لن يحصل، وأننا لسنا في أحد برامج تلفزيون الواقع. ففي بيروت، موت لم يُعلن بعد. لكنه واقع لا محال. والآتي أعظم بقرارات حكومية مرتقبة ومشاريع مؤجلة منذ عقود عن رفع الدعم عن المحروقات والخبز وغيرها. لا شفاء من الأزمة الحالية، ولو أنّ خططاً وهمية يتم الإعداد لها. ملامح المدينة بدأت تندثر. باتت جثة عاصمة، أو شبحاً لها.

موظفون مرموقون
الأحوال المعدومة تدفع عدداً من موظفي شركات كبرى وأساسية في بيروت إلى التخلّي عن "لوكس" استخدام سياراتهم أو حتى سيارات الأجرّة والسرفيس للتنقل من وإلى وظائفهم. بين حيّي الجميّزة ومار ومخايل، موظفون يجيئون ويذهبون مشياً على الأقدام. يأتون من أحياء مختلفة في بيروت. من تلّة الخياط وكورنيش المزرعة وفرن الشباك. ساعة وبضعة دقائق، أو خمسون دقيقة، مدة الرحلة من البيت إلى الوظيفة. والعكس. يوفّرون خلالها تكلفة الأجرة. فهم يقبضون نصف راتب أساساً، وإن دفعوا كلفة المواصلات "طار" جزءاً يسيراً مما يقبضونه. يفضلّون المشي على ذلك. يصلون إلى الوظيفة، يبدّلون ملابسهم ويجلسون وراء مكاتبهم كموظفين مرموقين. المهم الصورة، المظهر، كما دائماً في بلد المظاهر والنفاق. كل شيء على ما يرام، رغم الأزمة قادرون على استكمال الحياة ودورتها اليومية.

مناصفة ومثالثة
في أحياء رئيسية في الأشرفية، مشهد الموت بات معلناً. بين بترو طراد، عبد الوهاب، فرن الحايك، والشوارع المحيطة، مناصفة حاكمة. محل يعمل وآخر مقفل. محل مقفل وآخر يعمل. لا بل يمكن القول إنّ في هذه الشوارع التجارية مثالثة. محلّ يعمل، محمل مقفل، محل للإيجار. دكان سمانة، هيكل عظمي لمحل أثاث منزلي، محل للإيجار. ويستمرّ العرض نفسه نزولاً باتجاه التباريس إلى الجميّزة. فرن، هيكل عظمي لمكتب قضى نحبه، محل للإيجار. في الجميّزة خيّاط معروف في المنطقة. عائلته تعمل في الخياطة منذ عقود، ورث المهنة والمكان. يقف خارج محلّه وينتظر. يلفّ شريط القياس حول عنقه، وينتظر. "المطاعم هنا تقفل، ومن لم يقفل يضع لافتة "ديليرفري فقط"، الكل يقفل، هنا، في برج حمود في أراكس، أينما كان". شاهد أخر على قصة الموت غير المعلن.

إنارة بلا كهرباء
مظاهر الموت نفسها في شارع الحمرا. شارع المقاهي والألوان والمشي والسهر والنقاشات المستفيضة التي لا لزوم لها. "شارع الثقافة، التجار، البياعين" الذي غناه خالد الهبر. انتهينا من الثقافة فيه قبل زمن. واليوم ننتهي من باقي كلمات الأغنية. في الشارع الرئيسي مقهيان فقط. والتجار منهم من وضع "تصفية عامة" ومنهم من رحل. بعض محال المجوهرات أفرغت واجهاتها من البضائع، "نشتري ذهب". نشتري ولا نبيع. محل لبيع أدوات الإنارة والثريات، يفتح أبوابه لكن الكهرباء مقطوعة عنه. المصارف باتت بلوكات من حديد مع اسم المصرف فقط. في الحمرا، وصلت الحال ببعض أصحاب المصالح إلى وضع إعلان "خلوّ للبيع". في الشارع رجل خمسيني يسأل شاباً إن كان معه ألف ليرة، فيردّ عليه "مش شايفني ناطر الباص!".

هياكل عظمية
في هذه الشوارع حتى حركة التسوّل انحسرت. فمن يشحذ مِن مَن؟ فقط عند التقاطعات وإشارات السير، تجمّعات لأطفال ونساء. والمطلب "ألف ليرة"، ولا من يلبّي النداء. في الشوارع التجارية، بين الأشرفية والجميّزة والحمرا، ظاهرة جديدة لرجال في السبعين أو الثمانين من العمر يجلسون على حواف الأرصفة. يجلسون، بأرجل منتفخة، مع كومة أكياس. أحدهم وضع كنبة على واجهة محل مقفل. جعلها بيته. مجهّز بعلبة فيها أغراض وملابس. يجلس وأظافر أصابع رجليه نافرة من حذائه. شبح مواطن، يجلس أمام شبح محل تجاري، في شبح مدينة. حتى العمارات قيد الإنشاء، متوقفة الأعمال بها. هياكل من الباطون والحديد، تجسّد واقع مدينتنا. هياكل عظمية تعيش في هيكل كبير من الباطون اسمه بيروت.

في مدينتنا، مشاهد مجتمعة من مدن وبلدان أخرى. تتجسّد فيها لوحات الانهيار والإفلاس والأزمات. من اليونان إلى فنزويلا، مروراً بسوريا والأرجنتين. انهيار العملة الوطنية، أزمة الدولار-العملة الصعبة، طوابير الانتظار، الخدمات المتوقفة، الإفلاس التام. لكن فيها أكثر من كل هذا. تجمع بيروت مشاهد الدول المأزومة، بحكوماتها واقتصاداتها وشعوبها. وتجمع أيضاً أزمة الدويلات والسلاح والتقسيم أيضاً. نموذج فريد، كما دائماً.

في الازدهار والانهيار على حد سواء، لبيروت هوية لامعة واستثنائية. تفقد الخدمات، الكهرباء، المياه، الجامعات والمدارس، والتجارة والدولار، والمسارح ودور السينما. تفقد المقاهي والمطاعم والمساحات العامة. تفقد الصحف ودور النشر وحرية الكلام. تفقد كل شيء.

بيروت، ماتت وتنتظر من يعلن موتها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024