شابة لبنانية في ثورة يناير المصرية وانتفاضة 17 تشرين

محمد أبي سمرا

السبت 2020/12/19
بعد الحلقة الأولى من تجربة هذه الشابة اللبناية في القاهرة ("المدن 17 كانون الأول)، هنا حلقة ثانية، كانت قد سبقتها شهادتها عن مشاركتها في انتفاضة 17 تشرين اللبنانية (راجع "المدن" 17 تشرين الأول 2020).

تمرد فردي مستقل
بلغ ولعي الشغوف بالقاهرة ذروته في الأيام الـ18 الأولى من ثورة 25 يناير 2011 المصرية، فعشت تلك الأيام مع مجموعات أصدقائي ومعارفي من الشبان والشابات في حالٍ من السكر والتيه الخالصين، كأننا في أيام خارج الزمن، أو توقف الزمن بنا وبمصر كلها.

فأنا المولودة سنة 1983 في بيروت، كنت قد عشتُ مراهقتي البيتية والمدرسية البيروتية متمردة تمرداً فردياً على قيم بيئتي العائلية وتقاليدها، لاسيما على الأحكام والنواهي التي تحاصر البنات، وتقيّدهن بمعايير جنسهن الأنثوي الأخلاقية، في السلوك والكلام والملبس والجلوس وحركات أجسامهن وسكناتها. لكن تمردي ذاك ظلّ على حاله، فردياً وشخصياً وذاتياً في صباي المدرسي والجامعي، عندما انخرطت منذ نهاية التسعينات في تظاهرات احتجاجية مطلبية وسياسية في بيروت،  فتعرَّفت على كثرة من أمثالي من أبناء وبنات جيلي والجيل الذي يكبرنا بقليل، فخالطتهم/هن في التظاهرات.

وقد يكون عدم امتثاليتي وتمردي الفردي، في أصل نفوري من الأحزاب والتحزُّب والعمل الحزبي المنظم والبيروقراطي، طوال حياتي المدرسية والجامعية طالبةَ فنونٍ مسرحية في معهد الفنون التابع للجامعة اللبنانية في منطقة الروشة البيروتية.

أما في القاهرة - قاهرتي التي شغفتُ بها وبنمط الحياة الشبابية والشعبية في أحيائها - فقد صرتُ مصرية قلباً وقالباً ونمط عيشٍ ولهجةً في دوائر أصدقائي وصديقاتي، فلم يعد تمردي في حاجة إلى الإثبات والصدام، ما دمتُ أعيشُ حياتي حرة مستقلة وعلى هواي، بلا حسيب ولا رقيب سوى ما تدعوني إليه وتحملني عليه قيمي ومعاييري الفردية، الذاتية والشخصية، في تلك الدوائر القاهرية.

نيل البشر
وفاجأتني ثورة 25 يناير 2011 المصرية، وتحديداً في نهارها الرابع، 28 يناير، فأغرقتني مع أصدقائي/تي في بحر متلاطم من التمرد العمومي. لقد كان ذلك النهار أشد أيام حياتي خوفاً وأكثرها جمالاً وبهاءً. فبعد أيام 25 و26 و27 يناير التي شهدت احتشاد عشرات الألوف من شبان/ات الثورة وتجمعهم/هن في ميدان التحرير بوسط القاهرة، حوصر الميدان بقوات الأمن والشرطة ومُنع الدخول إليه، وامتنع على كل شخصين أو ثلاثة اللقاء والوقوف في أحياء وسط القاهرة المحيطة بالميدان. لكن نهار 28 يناير شهد تدفُّقَ ملايين القاهريين والقاهريات ومن جهات المدينة وأحيائها كلها إلى الميدان ومحيطه. فإذا بأكثر من نيل من البشر يحتشد، يتدفق ويموج، على كباري النيل، فوق مياه النيل الراكدة.

كنت ومجموعة من أصدقائي وصديقاتي في العباسية ذاك النهار. فقررنا الوصول إلى ميدان التحرير عبر طرق التفافية متعرجة طويلة في أحياء شعبية كثيرة استغرق سيرنا المتوتر في شوارعها أكثر من ساعتين، لاستحالة وصولنا إلى الميدان من الطريق التي تصله بالعباسية مباشرة. وذلك بسبب كثافة قوات الأمن والشرطة في وسط القاهرة. ولا أنسى تلك اللحظات، حينما أبصرتُ من على سطح بناية صعدنا إليه، أكثر من نيل من البشر يتدفق ويتلاطم في الشوارع والميادين وعلى الكباري. كان المشهد في ميدان رمسيس وعلى كوبري قصر النيل غير قابل للإحاطة والتصديق. فالقاهرة المسطحة أفقياً، يتيح انسراحُ البصر مشاهدتَها بانورامياً ممتدة حتى الأقاصي في فضاء لا نهاية له، وامتلأ بالبشر الزاحفين بلا هوادة لكسر حصار قوات الأمن والشرطة، كي يصلوا إلى وسط القاهرة وميدان التحرير.

الجيش، الجيش نزل
وفي غروب ذاك النهار اختفت فجأة قوات الأمن والشرطة من شوارع المدينة كلها، وبدأ تشكيل لجان شعبية وشبابية في الأحياء لحمايتها من البلطجية. ثم سَرَت على ألسنة الناس جميعاً تلك العبارة المرحّبة الفرحة: الجيش، الجيش نزل، نزل الجيش. وأنا المسحورة ببهاء ذاك النهار رحتُ أردّد العبارة إياها آلياً، غائبة عن نفسي وعن معنى تلك العبارة. وسرعان ما اكتشفتُ، بعد وقت قصير، أن دلالتها ومعناها عندي يختلفان تماماً عنهما لدى المصريين، ومنهم أقرب أصدقائي، ومَن عشتُ بينهم منذ سنواتٍ أربع كأنني شخص منهم.

فعلى قدر ما هي مشاعر اللبنانيين ومواقفهم حيال جيشهم متضاربة، ملتبسة ومنقسمة وتشوبها صور الفولكلور والكيتش الرسمي اللفظي، بدت لي مشاعر المصريين حيال جيشهم وموقفهم الموحد منه، غريبةً ومستغلقة عليَّ في البداية. فأنا في وعيي ومشاعري أنفر من الجيش، كلّ جيش. وفي سنواتي القاهرية قبل نهار 28 يناير 2011، لم يكن مطروحاً عليّ في الدوائر والأوساط التي خالطتها في القاهرة، أن أعي وأفهم علاقة المصريين بجيشهم.

فالجيش المصري كان غائباً ولا حضور له في حياة المصريين اليومية العامة، ولا يحتكون به، فيما يتركّز غضب الناس، وخصوصاً في الأوساط الشبابية، على قوات الأمن والشرطة. وهي تضخّمَ قمعها الناسَ تعسفياً وعشوائياً وتعذيبهم حتى القتل أحياناً في مقارها. ونشأت مجموعات شبابية كثيرة - أشهرها مجموعة "كلنا خالد سعيد" الذي عذَّبته قوات الأمن حتى الموت - للاحتجاج على ذلك العسف والقتل. وكان عديد أجهزة الأمن والشرطة قد تضخمَ، حتى بلغ أكثر من مليون عنصر في أيام نظام الرئيس حسني مبارك. والمجموعات التي نشأت منذ العام 2005 للاعتراض والاحتجاج على شيوع عزم حسني مبارك توريث ابنه جمال منصب الرئاسة، كانت تجابهها في الشوارع قوات الأمن والشرطة.

أما الجيش في وعي المصريين فكان خارج الحملات الاحتجاجية التي راحت شيئاً فشيئاً تطلق شعارات ضد النظام، حتى صار شعار "الشعب يريد اسقاط النظام" المنتقل من تونس، على كل شفة ولسان في مصر أيام ثورة 25 يناير.

وفيما راح متظاهرون وثوار كثيرون يرددون شعار "الجيش والشعب إيد واحدة"، بعد 18 يناير وتنحي الرئيس حسني مبارك، وقفتُ حائرة مترددة حيال ذاك الشعار، فلم أستطع أنا شخصياً ترداده، وصرت أقف صامتة بين المتظاهرين من أصدقائي وصديقاتي وسط الجموع.

الجيش والوطنية المصرية
وسرعان ما دار بيننا نقاش حول دور الجيش ومعنى الثورة التي رحت أشكِّك في دور المؤسسة العسكرية فيها، باعتبارها من صلب النظام ويستحيل أن تكون منقذاً، أو داعماً للثورة لتغيير النظام. وفجأة بدأت أسمع من بعض أصدقائي وصديقاتي تشكّكاً في انتمائي إلى مصر وثورتها، إلى أن صرخت إحداهن بي صرخةً عنيفة: "دا الجيش بتاعكو انتو بلبنان كده، مش جيش مصر اللي بتتكلمي عليه". وكنت للمرة الأولى أسمع من أقرب الأصدقاء والصديقات كلاماً يميزني عنهم/هن، كأنني غريبة ولست منهم/هن. وصارت كلمتا "عندكو" و"عندنا" تحرجني، وتقيم مسافة بيني وبينهم/هن.

وبدأت أفكر في طبيعة علاقة المصريين بجيشهم، وأحاول أن أقاربها وأعيها من ما دار بيننا من نقاشات وسجالات. فتبين لي أن الشعب المصري مغرم بجيشه غراماً وطنياً شبه جامع وشامل، وفوق السياسة أو منزهاً عن السياسة وأغراضها وخلافاتها. وتراءى لي أنهم في هذا على علاقة رومنسية بالجيش، ويرون أنه عمود الدولة والوطنية المصريتين ومحورهما. كأنه في هذا شبيه بالأنصاب والأوابد، مثل الأهرام والنيل ووداي النيل والحضارة الفرعونية وأم كلثوم وعبد الناصر. وهو محور المشاعر الوطنية الجامعة، البطولات والهزائم والمرارات والاحباطات والانتصارات، أقله منذ ثورة الضابط أحمد عرابي على الخديوي اسماعيل والتدخل البريطاني في نهايات القرن التاسع عشر. ثم رحت أسمع  عبارات صَعُبَ عليّ هضمها، وعدم اعتبارها ساذجة في بساطتها، مثل: "إذا بتحب بلدك بتحب جيشه".

"الوطنية" اللبنانية و17 تشرين
أمثال هذه العبارة لم تكن لتنفصل عندي وفي وعيي اللبناني عن الكيتش السياسي الفولكلوري، الإعلامي والإعلاني، الشائع في أوساط لبنانية كثيرة ومناسبات كثيرة. وعلمتُ من تجربتي اللبنانية، ومن جيل في عمر والديّ، أن الموقف من الجيش والوطنية في لبنان، كان من بواعث انقساماتنا وحروبنا الأهلية. لكنني أدركت أيضا أن لا سبيل إلى المقارنة بين مصر ولبنان في هذا المجال. فالوطنية والدولة المصريتان راسختان ومكتملتان في وعي المصريين ووجدانهم، ولا تقبلان القسمة أو الشقاق والخلاف عليها، والشعب المصري مجمعٌ عليهما إجماعاً عاماً تقريباً أو على وجه الإجمال.

وهذا لا أثر له في لبنان، حيث لا اتفاق على الهوية الوطنية الجامعة للبلاد، ولا حتى في الكتب المدرسية التي اختلفوا مديداً على تأليفها بعد اتفاق الطائف. والمشاعر الوطنية في لبنان خليطٌ شديد التنافر من الانتماءات والولاءات الطائفية والأهلية والمناطقية والعائلية المتضاربة والمتصارعة في كل شي وعلى كل شيء تقريباً. وهذا ما توهّمتْ مجموعات انتفاضة 17 تشرين 2019 اللبنانية - التي شاركتُ فيها بعد عودتي من القاهرة - أنها تجاوزته وطوته وصارت على مقربة من تحقيق أهدافها: إسقاط النظام الطائفي.

لكن تلك المجموعات، بعد عريها في ساحات الانتفاضة الطويلة، اكتشفت أن زهوها بالجموع والحشود الكبرى في الشوارع والساحات، لا يعني قط أن اللبنانيين تجاوزوا انتماءاتهم وهوياتهم وعصبياتهم. وهي انتماءات وعصبيات افترضت المجموعات الناشطة أنها مع المتظاهرين نحُّوها ورموها جانباً، وأن النظام الطائفي آيل إلى السقوط ، طالما توارى زعماؤه ووزراؤه ونوابه واختفوا وصمتوا صمتاً مطبقاً في العلانية العامة السياسية والإعلامية، طوال الأسابيع الأولى من أمجاد الانتفاضة وحشودها الكبرى في الساحات والشوارع. ولذا راحت المجموعات الناشطة في أيام الأسابيع التالية تداري إحباطها بمحاولاتها المستميتة في منع النواب والوزراء والسياسيين من الظهور في الشوارع والمطاعم والمقاهي، ما دامت الانتفاضة قد نحَّتْهم جانباً وأسقطتهم من مناصبهم، أو  نزعت الشرعية عنهم.

غياب السياسة في مصر
وفي خضم إحباطاتي أثناء انتفاضة 17 تشرين اللبنانية، رحت أستعيد فصولاً من تجربتي في الثورة المصرية، وأقارن بينهما. فتذكرت مسألة الغياب الكبير للسياسة والعمل السياسي والانقسامات السياسية في مصر. وهو غياب يشمل معظم فئات وطبقات الشعب المصري الاجتماعية والعمرية، ويرقى أقله إلى غداة ثورة 23 يوليو 1952 الناصرية، على ما علمتُ من أصدقائي المصريين، وشهدت أنا نفسي منذ إقامتي في القاهرة سنة 2008، وحتى الهبّة المفاجئة، التلقائية والعارمة، في يناير 2011.

وهذا يعني أن الحياة السياسية والوعي السياسي غائبان غياباً تاريخياً عن الحياة العامة في مصر. والغياب أو التصحر السياسي هذا، يخلي الفضاء العام لمشاعر وعواطف وجدانية وطنية يُجمِع عليها المصريون إجماعاً شبه طبيعي وتلقائي، يميل إلى الثبات وضآلة التجدد والمساءلة، بناءً على الاختبار والتجربة. والتجربة المصرية في هذه الحال التي تخفت فيها التجارب السياسية وتضمر، وينتصب فيها الجيش الغائب - الحاضر بقوة عماداً لها وخارج المساءلة، تتحول إلى رموز تاريخية -عاطفية ثابتة، مثل الحضارة الفرعونية والنيل والأهرام وجمال عبد الناصر.

أما تجارب الأحزاب السياسية المصرية المسماة "خشبية"، فهي أضأل من أن تملأ ذلك الفراغ السياسي التاريخي الكبير الذي خلّفته ثورة الضباط الأحرار الناصرية التي منعت السياسة، بل جعلتها ضرباً من الخيانة والمحرمات، باسم الوطنية المصرية العاطفية الجامعة.

هذا وتغيب السياسة عن تجربة جماعة الإخوان المسلمين المصرية، إلا على المعنى "الإخواني" والنشاط الجهازي السري تحت الأرض، بسبب القمع المديد التي تعرضت له الجماعة من الجيش. وهذا ما يجعل سياستها وتعاليمها وشعائرها الدينية، أقرب إلى إنشاء مجتمع نقيض في سريته و "تحتيته" للمجتمع العلني العمومي الذي تغيب عنه السياسة. وجماعة الإخوان المسلمين في وجه من وجوهها على شبه ما بالمؤسسة العسكرية التي احتكرت السياسة وغيّبتها من دوائر العلانية الاجتماعية والإعلامية التي عبأتها وشحنتها بالمشاعر والعواطف والأغاني الوطنية الفيّاضة طوال الحقبة الناصرية المديدة. وكذلك في حرب 6 أكتوبر 1973 التي رفعت أنور السادات بطلاً لـ"العبور".

وبعد تلك الحرب اختفت المؤسسة العسكرية المصرية من الفضاء العام وعاشت على "أمجادها الوطنية"، لتتحول في عهد حسني مبارك الرئاسي المديد إلى العمل في المقاولات والصفقات الاقتصادية شبه الاحتكارية، إلى جانب طبقة من الوكلاء ورجال الأعمال الجدد. وليتسنى لمؤسسة الجيش ونخبه من كبار الضباط الانصراف إلى عملهم الاقتصادي المقنّع هذا، انفصلت عن الشارع والحياة اليومية العامة، فولّت أمورهما وشؤونهما للأجهزة الأمنية والشرطة. وشكلت الأجهزة هذه، الثقيلة الوطأة على حياة المصريين، قناعاً واقياً للجيش من مشاعر الغضب الشعبي والجماهيري والشبابي التي راحت تتراكم وتكبر في الشارع المصري حيال ارتكابات أجهزة الأمن والشرطة، حتى انفجر ذلك الغضب فجأة في ثورة 25 يناير 2011.

لبنان العصبيات والانتفاضات
لا شيء من هذا كله في لبنان. فالسياسة والحياة السياسية - على معنى الانتماءات والهويات والحزبيات والتحزّب والغرضيات والمصالح على اختلاف انواعها - مشرعتان وعلنيتان ومتضخمتان في حياة اللبنانيين اليومية والاجتماعية العامة، وتملآن فضاءها بشتى أنواع الممارسات والأخبار والكلام والتكهنات والكليشيهات والهذيان.

والشعب اللبناني والوطنية اللبنانية في حال انقسام وتنازع شبه دائمين، منذ كان لبنان. ويكاد  اللبنانيون لا يجمعون على شيء اجماعهم على انقسامهم شِيعاً طائفية وأهلية ومناطقية، لا تكاد عصبياتها ونعراتها تتراجع وتخفت في أحايين، إلا لتظهر وتتأجج في أوقات أخرى. أما تلك الوطنية العامة الجامعة، الرقيقة والساذجة، فإذ تظهر ملامحها في وقت الهدوء والسلم، إنما تظهر في العلانية العامة مثل فولكلور، لإخفاء التوترات والعصبيات الهاجعة أو المؤجلة، والتي سرعان ما تطفو في أوقات الأزمات وتنفجر.

وما يسمى الحرية السياسية والاجتماعية والإعلامية في لبنان، إنما هو حرية فوضوية لصيقة بتلك العصبيات والانتماءات والهويات المتنازعة، ومنها تستمد شرعيتها. والجيش اللبناني، مثل الوطنية اللبنانية، لا يتجاوز الإجماع عليه ذاك الإجماع الفولكلوري الساذج والرقيق. وهو كان منذ ما قبل الحروب الأهلية في لبنان وفي أثنائها، مثار نقمة المسلمين الخافتة حيناً والمعلنة أحياناً، باعتباره جيش المسيحيين وجيش الوطنية اللبنانية المسيحية. أما الأجهزة الأمنية فلا حضور لها في لبنان قط، على مثال حضورها الطاغي والطغياني  في دول وأنظمة الانقلابات العسكرية العربية، مثل مصر وسوريا والعراق.

وإذا كان معظم اللبنانيين قد خرجوا من انتماءاتهم وعصبياتهم الطائفية والأهلية في ما سمّي انتفاضة الحرية والاستقلال في 14 آذار 2005، بعد اغتيال الحريري، فإنهم خرجوا مع زعماء طوائفهم وعصبياتهم "المرتدين" - بما يشبه حماية دولية وعربية - على سكوتهم وولائهم المديد لنظام الأسد السوري، الذي أدار بغلظته الغاشمة عصبيات اللبنانيين وولاءاتهم المسماة حياة سياسية. وكان خروجهم الكبير ذاك خروجاً كرنفالياً واحتفالياً فرحاً وآمناً، فلم يُجرح فيه شخص واحد، سوى بعض السوريين العراة من كل حماية أو حصانه. ذلك أن العصبية الوطنية اللبنانية استفاقت ضدهم واستضعفتهم، فسُحِل بعضم في الشوارع انتقاماً من نظام الأسد أثناء رحيل جيشه وأجهزة استخباراته من لبنان.

ولا يمكن في هذا السياق مقارنة كرنفالية 14 آذار اللبناني السعيد، بأيام ثورة 25 يناير المصرية العاصفة التي قتل فيها ما لا يقلّ عن ألف شخص إضافة إلى ألوف الجرحى.

ولا أدري إن كان اختفاء أجهزة الأمن والشرطة في 28 يناير في مصر، وظهور الجيش في قناع حامي الثورة، يشبهان في وجه من الوجوه الشكلية على الأقل، مسارعة زعماء الطوائف والعصبيات اللبنانية إلى تصدّر انتفاضة الاستقلال والحرية اللبنانية في 2005. وسرعان ما استعاد زعماء الطوائف وأجهزتهم الحزبية القبض على زمام الانتفاضة الكرنفالية السعيدة، وتصدروا الحياة السياسية، وسط ترويع الاغتيالات والتفجيرات المتنقلة، وانقسام اللبنانيين معسكرين: 8 آذار الموالي لنظام الأسد وحزب الله الإيراني، ومعسكر 14 آذار الذي راح يتفكك وينقسم.. وصولاً إلى 17 تشرين الأول 2019 وانتفاضته التلقائية المفاجئة، والتي ظنّ ناشطو المجموعات الكثيرة القديمة والناشئة حديثاً أن الانتفاضة تلك، أخرجت اللبنانيين المشاركين في تظاهراتها الكرنفالية الحاشدة من انتماءاتهم وعصبياتهم الأهلية والطائفية.
(يتبع حلقة أخيرة)

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024