باطون "المشروع الثقافي" يهدد تكيّة طرابلس المولوية

جنى الدهيبي

السبت 2019/06/29

لا قيمة للتراث والتاريخ والآثار في لبنان. هذا ما يؤكد المسار الطويل للدولة، ومجلس الإنماء والإعمار، في مشاريعهما المسماة "تنموية"، والتي غالبًا ما تكون مشاريع اعتداءٍ وتشويهٍ وتخريبٍ للأبنية والمعالم الأثرية والأملاك العامة، بحريّة وبريّة. آخر "إنجازات" مجلس الإنماء والإعمار في عاصمة الشمال، كان في أعمال الحفر التي يقوم بها، ضمن ما سبق أن أطلق عليه لقب "مشروع إحياء الإرث الثقافي"، ما شكّل نتيجة هذه الأعمال خطرًا كبيرًا على مبنى "التكيّة المولوية"، التي تقع على ضفة نهر أبو علي في جوار قلعة طرابلس، بناها صمصمجي علي سنة 1028هـ/ 1619م، في بداية العصر العثماني، وتبلغ مساحتها 200 متر مربع ومؤلفة من ثلاث طبقات.

"التكيّة المولوية"، بما تشكّله من قيمة عمرانية وتراثية وتاريخية بالغة الأهميّة في طرابلس، أثار تعريضها للخطر موجة استهجان كبيرة وغضباً شعبياً واستياء من الفعليات الثقافية وبعض أعضاء المجلس البلدي، المهتمين بالحفاظ على آثار طرابلس المملوكية والعثمانية، باعتبارها ثروة كبيرة ونادرة في العالم العربي، كفيلة أنّ تكون نواة أساسية لحركة السياحة الثقافية والدينية في المدينة.

لكنّ، ما قصّة هذا الاعتداء؟
يشرح رئيس لجنة الآثار والتراث في بلدية طرابلس، الدكتور خالد تدمري، لـ"المدن"، الرواية الكاملة لقصّة الاعتداء على "التكيّة المولوية"، بعد أن انتهى مشروع ترميمها، وكان من المنتظر الانطلاق بالمرحلة الثانية من المشروع، بتحويل التكيّة إلى متحف، "لكننا اضطررنا إلى التوقف وتعليق الأعمال نتيجة بدء مجلس الإنماء والإعمار بأعمال الحفر، استكمالًا لمشروع إحياء الإرث الثقافي".

أعمال الحفر التي يقوم بها مجلس الإنماء والإعمار، كان للجنة تدمري اعتراضًا كبيرًا عليها، منذ أن قدّم مجلس الإنماء خرائطه، بعد انتخاب المجلس البلدي في العام 2016. حينها، "قلنا لمجلس الإنماء والإعمار أنّ هذه الخرائط سبق أن عرضوها منذ عشر سنوات، وكانت خرائطهم خالية من التكية المولوية، لأننا لم نكن قد بدأنا بإعادة بنائها. طلبنا منهم احترام عقولنا، وأن يقوموا على الأقل بتجديد الخرائط والتعديل عليها، فأبلغنا رئيس البلدية أحمد قمر الدين أن المشروع لا يمكن أن نسمح بمروره بهذه الطريقة، لا سيما أنه لا يُلائم المنطقة على الإطلاق".

لاحقًا، وضعت وكالة "تيكا" التركيّة، بالتنسيق مع تدمري، دراسة ثانية من أجل تنظيم محيط التكيّة المولوية، تضمنت استحداث مسرح دائري في خارجها يكون للعروض المولوية، وأن يكون المسرح صالحًا أيضًا لأنشطةٍ أخرى من وحي التكية ومناخاتها الصوفية. لكن ماذا حدث؟!

قبل مدّة، تفاجأ تدمري، وأعضاء المجلس البلدي، أنّ الرئيس قمرالدين أعطى مجلس الإنماء والإعمار إذن المباشرة بأعمالها في محيط التكية، من دون علم اللجنة الهندسية ولا لجنة الآثار والتراث، وسار مع المجلس بعملية التلزيم، فبدأ العمل على الأرض وفق الخرائط القديمة. يأسف تدمري أنّ مجلس الإنماء اعتاد أن تكون مشاريعه عبارة عن "حدائق من الباطون، حتّى يتربّح المتعهد قدر المستطاع، كما هو حال الحديقة التي أنشأوها خلف جامع البرطاسي في المنطقة، والتي هي حتّى الآن غير مطابقة للمواصفات ولا يوجد فيها شجرة واحدة صالحة".

وما يحصل حاليًا في محيط التكية المولوية، وفق تدمري، هو جرف كامل للتربة. وقد هبطوا بساحة المولوية لمستوى النهر، بحجة أنه سيكون متنزهًا للناس على ضفافه (!): "علمًا أنّ هكذا اقتراح يحتاج إلى معالجة للنهر ومنظره الملوث قبل تقديمه". ويشير تدمري أنّ أعمال الحفر شملت بشكل كبير التلال المحيطة بالتكية المولوية، و"قد سبق أن مرروا العام الماضي منها أسطلًا ضخمًا في قلب الجبل، وأزالوا كلّ التضاريس الموجودة فيه بين القلعة والتكية المولوية، وكل ما عثروا عليه من حجارة قديمة من بقايا الطريق القادومية المعروفة تاريخيًا، كانوا يذهبون بها وتختفي".  

آخر عملية حفرٍ قام بها مجلس الإنماء منذ أسابيع، تسببت بانهيارات وقعت على التكية المولوية، إلى جانب إطاحة ساحتها إلى مستوى النهر، ما قد يؤثر سلبًا على أثاثات التكيّة والحوائط الداعمة لها. هذا الواقع التخريبي، "دفع وكالة تيكا الموكلة بالحفاظ على التكية، وكانت قد كلفت إحدى الشركات لحراستها، بغية إنجاز المشروع وتسليمه للبلدية، لإرسال كتابٍ رسمي إلى البلدية حتّى تسألها عن موعد انتهاء هذه الأعمال حتّى تباشر مشروع تحويلها لمتحف، فردّ رئيس البلدية أن موعد الانتهاء قد يكون في آخر الصيف! وأن لا تاريخ محدد. وهذا أمر مضحك للغاية"، يضيف تدمري. كذلك، أرسلت "وكالة تيكا" كتابًا رسميًا آخر للشركة المتعهدة، عبر مجلس الإنماء والإعمار، وحذروهم مما يقومون به، و"اعتبروا أن الاستمرار بأعمال الحفر العشوائي، قد يدفعها إلى التحرك قانونيًا، إذا لحق مبنى التكية أيّ ضرر، لكنهم لم يلقوا جوابًا من الشركة". 

مدرجات باطونية
يعتبر تدمري أنّ مشروع مجلس الإنماء هو في نهاية المطاف عبارة عن "مدرجات باطونية" مزروعة بعدد من الأشجار، كما هو حال مشروعهم الذي نفذوه في الحديقة خلف جامع البرطاسي. أما لجنة الآثار والتراث، فـ "كان لها مشروع كامل ومدروس لحديقة تسمى "جلال الدين الرومي"(حديقة مولانا)، ولها تفاصيل كاملة، واقترحناها مع الدولة التركية ووضعنا تصاميمها. بينما الحديقة التي يقومون بتنفيذها تُثبت كم هي فارغة من أي مضمون". وعلى الرغم من الإصرار على المضي بالمشروع التركي، "لمح مجلس الإنماء أنه كان يريد أن يدمج المشروعين ببعضهما البعض، لكنهم لم يقدموا على أيّ مشروع ثنائي يساهم في عملية إذن المباشرة، وأقروا التلزيم من دون الأخذ بالاعتبار أي واحدة من الأفكار التي اقترحناها". 

في الواقع، وعلى مرّ السنوات السابقة، ضرب الإهمال "التكية المولوية" وكادت أن تندثر، لولا أن بادرت الدولة التركية بمشروع إعادة ترميمها، وهو ما لم تعرف السلطة المحلية في طرابلس استغلاله والاستفادة منه على نحو مثمر وسليم، في ظلّ تقاعس الدولة، وعدم تجاوب مجلس الإنماء والإعمار مع "مشاريع" الحفاظ على المباني الأثرية والتراثية. وفي السياق، يشير مصدر رسمي من مجلس الإنماء والإعمار لـ"المدن"، أنّ كلّ ما يُحكى عن تقاعسٍ أو تقصيرٍ أو تعدٍ على المباني الأثرية هو محض افتراء، ويدلّ على عدم معرفة ودراية بعمل المجلس على الأرض. فـ"مشروع الإرث الثقافي هو من أهم المشاريع التي ننفذها بعناية بالغة، وننسق مع المديرية العامة للآثار ومهندسين متخصصين، وما يُحكى عنه ينم عن عدم اطلاع واضح".

تاريخ بعيد
وبالرجوع إلى تاريخ "الكتيّة المولوية"، فهي عبارة عن مجمّع متكامل يضم قاعة للتعليم والتدريب، ومسجدًا وقاعة اجتماعات، كان يلتقي فيها أعيان المدينة ورجالاتها، وقاعات لاستقبال الضيوف وإقاماتهم، وقاعة مخصصة للحلقات المولوية (الفتلة)، وغرفاً لشيخ المولوية، ومساكن للدراويش ومطعماً للزوار والفقراء، ومطبخاً وحوض ماء للوضوء، وحديقة وشرفة مطلة على نهر "أبو علي" والقلعة. وحسب المعلومات الواردة عنها، فقد شكلت التكية في طرابلس صرحًا دينيًا وتعليميًا وخيرياً في آن واحد، و"احتلت مكانة بارزة في تاريخ المدينة على امتداد نحو 400 عام بعدما بناها مندوب السلطنة العثمانية صامصونجي علي، عام 1619م".

كذلك، تعدّ التكية المولوية واحدة من أعظم التكايا المولوية السبع الموجودة حالياً، خارج تركيا، والموزعة في القاهرة والقدس ودمشق وحلب وقبرص والبوسنة. وقد تعرض محيطها في طرابلس للتشويه والدمار بعد فيضان نهر "أبو علي" الشهير، في العام 1955، "قبل أن يلحق بها الخراب الأعظم في الثمانينيات أيام الحرب".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024