بدايات أسلمة ضاحية بيروت الجنوبية وتشييعها

محمد أبي سمرا

الجمعة 2020/07/31
في العام 1954 نجح خليل خالد الفغالي (المولود في المريجة سنة 1936) في الدخول إلى سلك شرطة بيروت، فأُلحق شرطيًا في الفوج الدرّاج أو السيّار، وانتقل بعد مدة إلى سلك الأمن العام. وهو روى أن الأمير فريد حارث شهاب، المدير العام للأمن العام أنشأ أثناء حوادث 1958 مفرزة خاصة من رجال السلك لحراسة قصره في بلدة الحدت، فكان الفغالي في عدادها إلى جانب عبد الحفيظ بعدراني، محي الدين بيضون، فيليب أبو أنطون، أنطون محاسب، عقل أبي عقل، وعثمان العرب.

القتل الطائفي في 1958
وسأل الراوي الأمير فريد: سيدنا، ليش المفرزة ما فيها ولا متوالي (شيعي)، أين التوازن؟! فجاوبه الأمير بقول مأثور شائع: "لأن الشيعة ألف قَلْبة ولا غلبة"، أي ينقلبون ولا يؤمن جانبهم.

إضافة إلى حراستها قصره، كان الأمير يكلّف عناصر المفرزة بتزويد مخافر الدرك في ساحل المتن الجنوبي معلومات تتوافر لدى مديرية الأمن العام، فتترجم المخافرُ المعلومات إلى مهام يومية، منها حملات دهم المطلوبين واعتقالهم. لكن مهام الدهم والاعتقال وسواها من حوادث شتاء 1958 وربيعه (المشهورة بـ"ثورة 1958")، كانت قليلة في ساحل المتن الجنوبي، قياسًا إلى كثرتها في مدينة بيروت. فالمريجة لم تشهد سوى حادثة واحدة، حسب الفغالي: مقتل اثنين من فتيانها، كانا عائدين مع ثالث إلى الضيعة من ساحة البرج ببيروت، فاختطفهم مسلحون من الكرد قرب جبانة الباشورة. واحد من الفتيان من آل متى، كان أهلُه مهاجرين في مصر، فعادوا إلى لبنان واستردوا الجنسية اللبنانية. آخر آشوري أصمّ، والده يعمل ماسح أحذية في ساحة البرج، وثالث من آل الزيات. وحده الأشوري نجّاه صممه من الإعدام. فحين نادى الخاطفون المحتجزين ليخرجوا من مكان احتجازهم، خرج الفتيان متى والزيات، فأطلق المسلحون الكرد عليهما النار وأردوهما. ويبدو أن حميّة الخاطفين على القتل كانت قد همدت، حين اكتشفوا أن الثالث لم يخرج، لأنه لم يسمع نداءهم باسمه، فأطلقوا سراحه، وعاد إلى المريجة.

أهل القتيلين وأقاربهما وبعض أهالي المريجة، تجمعوا في ساحة قريتهم بعد الحادثة غاضبين، عازمين على القيام بعمل ثأري ما ضد مسلمين في الضيعة، لكن الأهالي المسيحيين منعوهم عن ذلك. في الأثناء مرت في الساحة سيارة يقودها شاب غريب عن الضيعة، فأوقفه الأهالي الغاضبون. وعندما علم شقيق أحد القتيلين أنه مسلم سنيّ من آل الهبري، شهر عليه مسدسه قائلًا له إنه سوف يقتله ثأرًا لشقيقه. لكن الراوي (الفغالي) سارع إلى إطلاق النار من مسدسه في الهواء تخويفًا للمحتشدين حوله من الأهالي، ثم ركض مع صديقه جريس أبو زيد، فخلّصا الشاب الهبري من وسط الجمهرة ودفعاه إلى سيارته لينطلق بها مغادرًا الساحة. لكن ما ألمّ به من رعب في انطلاقه مسرعًا على غير هدى، أفقد السيارة توازنها، فكادت تدهس طفلًا واقفًا إلى جانب الطريق، قبل انحرافها واصطدام مقدمها بجذع شجرة الزنزلخت في طرف الساحة.

العشائرية تنقذ من القتل الطائفي
حادثة أخرى من حوادث 1958 في الساحل تعرّض لها الراوي مع زميليه في سلك الأمن العام، حبيب مرتضى وفريد شمعون: كان الثلاثة مارين في سيارة مرتضى "السيتروان" في شارع عبد الكريم الخليل بمحلة الغبيري، متجهين نحو تقاطع بئر العبد. كان الوقت ليلًا، والمنطقة لا تزال عامرة بالبساتين وطرقها خالية تمامًا. فجأةً قفز من بستان رجال مسلحون، فاعترضوا السيارة، وضرب أحدهم مقدمتها بقبضته بعد توقفها. وصرخ أحد المسلحين بركابها أن ينزلوا منها.
كان عدد المسلحين سبعة أو ثمانية، يحملون بنادق من نوع المعدلة ومسدسات. وما أن خرج من السيارة سائقها مرتضى وزميله شمعون، حتى نزع المسلحون منهما مسدسيهما. أما ثالثهم، الراوي، فقد أدخل أحد المسلحين سبطانة بندقيته من نافذة السيارة ووضع فوهتها في صدره، صارخًا: نزال ولاه، إذا ما بتنزل بخلي لحمك يلزق بالطراحة (المقعد). كانت لهجتهم بعلبكية، والأرجح أنهم من سكان حي المصبغة البعلبكيين في الغبيري. هذا ما أكده للراوي سلوكهم وتعاملهم مع عناصر الأمن العام الثلاثة، بعدما علم أحدهم أن سائق السيارة بعلبكي من آل مرتضى، وابن السيد عبد الكريم مرتضى الذي كان قائمقامًا، وانتقل منذ سنين كثيرة مع أسرته للإقامة في الريحان جنوبًا، وفقد أولاده - ومنهم حبيب نفسه - لهجتهم البعلبكية. لذا صرخ المسلح برفاقه: يا شباب معهم ابن السيد عبد الكريم، لازم نتركهم، فما كان من المسلح الذي وضع فوهة بندقيته في صدر الراوي إلا أن أخرجها من نافذة السيارة وتراجع إلى الخلف مرددًا: له له له، كأنه يؤاخذ نفسه على ما فعله وتلفّظ به. ثم كشفت المحادثة الودية التي جرت بينهم وبين مرتضى أن واحدًا منهم وربما آخرين سواه هم من آل المقداد ومن بلدة لاسا في جرود جبيل. وعلم الراوي أيضًا أن شقيقة المسلح المقدادي (زينب) كانت تعمل صانعة (خادمة) في بيت أهله في المريجة، فاعتذر المسلح منه ومن عبد الكريم مرتضى، وأخلوا سبيل رجال سلك الأمن العام الثلاثة، الذين لم يكتبوا تقريرًا للسلك بما حدث.

مفتّش التحري يسلّي الوزير البيك
في العام 1962 كان الراوي الفغالي لا يزال في سلك الأمن العام، وجاء في مهمة إلى مكتب مفوض عام الأمن العام ورئيس دائرة بيروت وجبل لبنان للاستقصاء والمداهمات، المفوض عمر النويري. وفجأة دخل النائب الجنوبي الشيعي ووزير التربية آنذاك، سليمان الزين، إلى مكتب المفوض العام، زائرًا وطالبًا خدمة ما على الأرجح. وكان الزين عضوًا في المجلس الإسلامي التابع أو المنبثق عن دار الإفتاء السني في بيروت، قبل إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.

ولما تلقى المفوض النويري مكالمة هاتفية من رئيسه المدير العام للأمن العام توفيق الحلبوط، اضطر إلى مغادرة مكتبه قائلًا للنائب والوزير الزين إنه مضطر لتركه قليلًا من الوقت مع خليل (الراوي) لكي يسلّيه، مضيفًا: خليل من أفضل مفتشي التحري عندي. ثم التفت المفوض إلى خليل قائلًا: اقعد هنا، سلّيلي معالي الوزير سليمان بيك الزين، أنا راجع.

فور خروج المفوض من مكتبه، دار بين الوزير البيك ومفتش الأمن العام الحوار التالي:

الوزير: منين إنت يا سيد خليل؟

المفتش: من برج البراجنة.

الوزير: من بيت مين؟

المفتش: من بيت خالد.

الوزير: في بيت خالد بالبرج؟!

المفتش: نعم.

الوزير: أنتم سنة أم شيعة؟

المفتش: كوكتيل، معالي الوزير.

المفتش يكتم طائفته
وروى المفتش أنه تكتّم على طائفته المسيحية ما دام سؤال الوزير ينطوي على أنه اعتبره مسلمًا. واسمه (خليل) وكنيته العائلية (خالد) - التي لم يضف إليها: الفغالي - لا يكشفان عن مسيحيته. وهذا ما حمل الوزير الزين على القول له: إن شاء الله (سوف) نؤسلم لكم الضاحية قريبًا يا خليل.

لم يكن المفتش قد سمع بعدُ كلمة الضاحية، تُطلق على قرى ساحل المتن الجنوبي. أو أنه كان قد سمع بها، لكنه تجاهلها (وأدارها "حمصية"، أي هبلْ، بحسبه)، وأتاحت له ندرةُ تداول هذه التسمية أن يسأل الوزير مستغربًا:

الضاحية؟ شو يعني الضاحية، يا معالي الوزير؟

فقال الوزير: ساحل المتن الجنوبي، سوف نؤسلمه كله، ونشيل (نقتلع) المسيحيين منه. يا أخي في ثورة 1958 هلكنا كميل شمعون. لقد كان السلاح يأتيه من العراق وتركيا (أيام حلف بغداد) إلى مطار بيروت، الذي ظل مسيطرًا عليه، فلم يقدر الثوار على احتلاله، فيما كان الرئيس عبد الناصر يقول: احتلوا المطار، احتلوا المطار. كمال جنبلاط حاول احتلاله. لكن هجومه عليه من الجبل فشل، بسبب الزنار السكاني المسيحي في ساحل المتن الجنوبي حول المطار.

دُهش المفتش ورغب في أن يسمع المزيد، فقال للوزير: كيف ستؤسلمون الساحل يا معالي الوزير، كيف، دخيل عرضك فشّلي قلبي، قل لي كيف؟

سوف نأتي بالمسلمين ونسكّنهم في الساحل ليصير محيط مطار بيروت مسلمًا، فسّر الوزير. فسأله المفتش مجددًا: أي إسلام، من أين تأتون بالإسلام، ما دام مسلم بيروت يحلف بغربته عندما يصل إلى حرش بيروت؟!

خطة أسلمة الضاحية وتشييعها
هنا أفصح الوزير: الإسلام الشيعة من بعلبك والجنوب. وإمعانًا منه في التفسير والشرح، تابع: أيام كانت الريجي (شركة حصر التبغ والتنباك اللبنانية) في منطقة النبعة (في ساحل المتن الشمالي، والضاحية الشمالية لبيروت، لاحقًا)، قلّة من عمالها الشيعة أقاموا قربها في النبعة، ونقلوا إليها سجلات قيد نفوسهم. واليوم، بعدما نقل كميل شمعون الريجي إلى الحدت، صار عمالها الشيعة مضطرين إلى التنقل يومياً بين الحدت والنبعة. لذا سوف نسهّل عليهم ونشجعهم على السكن والإقامة في مناطق قريبة من الريجي، وسوف يتكاثرون. ولذلك أنشأنا جمعية اسمها "جمعية بناء المساجد"، والرئيس جمال عبد الناصر دعمها، أطال الله عمره. والجمعية هذه ستشجع الشيعة على شراء أملاك المسيحيين، وتتكفل ببناء مساجد لهم عندما يتكاثرون. ولأن المسيحي لا يطيق الإقامة قرب الشيعي، سوف يهشل ويهرب. وبعد 10 - 12 سنة يصير محيط المطار شيعيًا.

في هذه اللحظة عاد المفوض عمر النويري إلى المكتب، مكتبه، فتوقف الحديث بين الوزير والمفتش الذي لم يكن قد سمع بأن هناك جمعية تسمى جمعية بناء المساجد. ثم إنه لم يجرؤ على كتابة تقرير عما سمعه من الوزير إلى جهاز الاستقصاء والتحري الذي يعمل فيه بسلك الأمن العام.

لقد أخافته طائفية الموضوع. وخاف أكثر من أن يحمله المفوض النويري، رئيسه في السلك، على محمل طائفي، في حال كتابته ما سمعه من الوزير في تقرير لا بد أن يجلب له المشاكل في وظيفته، وقد يؤدي إلى فصله من السلك. لذا، قرر السكوت، والابتعاد عن الشر، و"أن يغني له"، على ما روى مرددًا المثل العامي الشائع. وهذا بالرغم من أن أقوال الوزير أقلقته، وحملها على محمل الجد، مستذكرًا بعضًا من حوادث 1958.

يقظة الذكريات والهواجس الطائفية
وجزم الفغالي أن ساحل المتن الجنوبي، قبل تلك الحوادث، كان خاليًا تقريبًا من السكان الشيعة غير "الأصليين" المتوطنيين بكثافة في ضيعة برج البراجنة. أما أبناء عشيرة المقداد - الوافدون تباعًا وعلى دفعات من لاسا ومقنة في جرود جبيل، والنازلون ابتداءً من عشرينات القرن العشرين في حيّهم العشوائي العمران والعشائري الاجتماع - فكانوا قد بدأوا يصيرون سكانًا محليين وشبه "أصليين"، ولو على مضض، وعلى رغم ما أثاروه من اضطراب وشقاق بين سكان حارة حريك "الأصليين" المسيحيين بغالبيتهم وأقليتهم الشيعية. هذا فيما كانت ضئيلة بعدُ، قبل 1958، وفادة الشيعة الجنوبيين والبعلبكيين ونزولهم في الغبيري (في حي المصبغة خصوصًا).

وهنا سرعان ما تذكر الراوي الفغالي أن شخصًا أصله من الشويفات يدعى ميشال إسبر صعب، وكان يقيم في تحويطة الغدير، أخذ يعمل أثناء حوادث 1958 وغداتها، سمسارًا في تجارة الأراضي، متعاونًا مع شخص شيعي يعمل على تشجيع بعلبكيين على شراء قطع أرض في كروم زيتون صحراء الشويفات، ويرغِّب ملاكها المسيحيين ببيعها. ثم تذكر أيضًا شخصًا آخر يدعى أبو عساف الحاج عساف، هو من أتى بأول شخصين شيعيين وأسكنهما مع عائلتيهما في ناحية من مزرعة الليلكي التابعة لضيعة للمريجة، والقريبة من سكة القطار.

خوف المسيحيين الطائفي
هكذا أخذت الذكريات والهواجس تنبعث قوية في ذهن المفتش، بعدما سمع سنة 1962 ذلك السيناريو من النائب والوزير الشيعي سليمان الزين. وراحت تستفيق في ذاكرته صور لتكاثر وفادة الشيعة إلى قرى الساحل وتخوم بساتينها، فينزلون في تخاشيب (أكواخ خشبية) وغرف إسمنتية صغيرة مبنية على عجل، يقيم في الواحدة منها ما بين 5 و8 أشخاص من العمال. وأكبر تجمع وأقدمه لمثل هذه التخاشيب والغرف المتلاصقة، والمتحولة بناءً عشوائيًا من طبقة أو اثنتين، نشأ في حي المصبغة ما بين الغبيري والشياح.

وعلى إيقاع توسع السكن البعلبكي، وخصوصا في تحويطة الغدير وحول المريجة الضيعة، تزايدت هواجس مسيحييها. وهذا ما حمل مفتش الأمن العام على رواية ما سمعه من الوزير الزين لوالده المفتش العام في وزارة التربية الذي اصطحب ابنه، في واحدة من زياراته الصرح البطريركي في حريصا، لإخبار سيد بكركي، البطريرك الماروني مار بولس بطرس المعوشي، بما رواه الوزير الشيعي.

حدث ذلك عام 1964 في مطلع عهد الرئيس شارل حلو. وفيما كان البطريرك يستمع إلى الحكاية، أخذ يفرك يديه مضطربًا، فأشار عليه والد الراوي أن يُطلع رئيس الجمهورية على قلق مسيحيي المريجة، فقال البطريرك: وماذا يستطيع الرئيس أن يفعل؟ يجب على المسيحيين ألا يبيعوا أرضهم.

حمل المفتش التربوي العام قول البطريرك رسالةً، وجعل يبثها بين أهل المريجة. وفي نهاية قداس أحد من العام 1965 وقف في كنيسة مار الياس في الليلكي، وطلب من الأهالي عدم مغادرتها، ثم أغلق بابها، وخاطبهم قائلًا: في الحرب العالمية الأولى تعرضنا للجوع، ولولا عبد الهادي العرب ابن برج البراجنة، لكان نصف أهل الضيعة ماتوا جوعًا، لكننا لم نغادر أرضنا. اليوم، يا جماعة الخير، يجب ألا نبيع بساتيننا وبيوتنا. هنالك مخطط لإخلاء الضيعة من أهلها المسيحيين وانتزاعهم من أرضهم التي بيع قسم كبير من كروم زيتونها في الليلكي وفي تحويطة الغدير. وإذا كانت أراضي السقي (البساتين المرويّة) وأراضي الضيعة قد سلِمت من البيع، فمن الآن وصاعدًا يجب أن نصمد ونمتنع عن بيع شبر واحد. 

كلام الرغبة يمحوه الواقع
هلّل أهل الضيعة لكلام المفتش التربوي مرددين: يسلم تمك (فمك) يا أستاذ، والله الحق معك يا أستاذ. لكن كلام الأستاذ في الكنيسة، سرعان ما ذهب أدراج الرياح خارجها، ما أن كانت تُعرض على الملاك أسعار مغرية لبيع أرضهم. والحق أن السماسرة كانوا في معظمهم من المسيحيين الذين يرغِّبون ملاك الأراضي بالبيع، ويتعاونون مع سماسرة من الشيعة يؤمنون زبائن لشرائها.

وتكفّل ارتفاع الأسعار وإغراؤها بإدخال الشقاق بين أبناء العائلة الواحدة من الملاك. فإذا صمد أحد ورفض بيع أرضه، كان يروح كل من زوجته أو ابنه هذا أو ذاك، يرّغبونه تارة، وتارة يندِّمونه ويحرضونه بلا توقف، فيستسلم أخيرًا، دفعًا لنقّ زوجته وتحريض أولاده الطامحين إلى تغيير نمط حياتهم الزراعي، والارتقاء بها وتجديدها في مكان ومنطقة آخرين. هذا فيما كان تزايد نزول المهاجرين البعلبكيين على أطراف الضيعة، وطبيعة عيشهم المختلفة وطباعهم الشرسة واستسهالهم العراك - على خلاف أهل الساحل المسالمين - من العوامل الإضافية المرجِّحة لاستسلام الملاك لرغبات نسائهم وأولادهم في بيع أرضهم.

دبيب الفوضى اللبنانية
لكن العامل الإجرائي العميق والحاسم الذي سهَّل على تجار البناء التجاري الرخيص الجاهز، كثافة إقبالهم على البناء شبه العشوائي على الأراضي الزراعية المباعة، وشجع المهاجرين الجدد على السكن في تلك البنايات وسهَّله عليهم، كان عاملًا يتعلق بالفوضى الضاربة في تسارع وتائر تحولات الاجتماع اللبناني الريفي، والمديني الموقوف، لكن القوي بحيويته وحراكه وحريته الفوضوية مقارنة بضعف الدولة الموقوفة والهشة بدورها، وتخلف قوانينها وجمودها وضعفها والتلاعب بتطبيقها.

وهذا يشمل إدارة العمران والبناء وتنظيمهما، بلا تخطيط وبلا الحصول على تراخيص بالبناء، لقاء حصول عناصر الدرك وضباطهم في مخافر برج البراجنة والمريجة وحارة حريك على رشى مالية من المقبلين على البناء.

غير أن هذه العوامل مجتمعة لم تكن لتضاهي قوة العامل المستجد ما بعد حزيران 1967: ظهور منظمات المقاومة الفلسطينية وسلاحها في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وفي طليعتها مخيم برج البراجنة المتاخم لحارة حريك والمريجة. ومن ثم خروج السلاح الفلسطيني عن نطاق المخيمات وانتشاره، بل حصاره السكن المسيحي بدبيب خوف مقيم، أين منه خوف المسيحيين من شراسة البعلبكيين؟!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024