السلطة تهيننا إفقاراً وفساداً.. وتقتل ناجي الفليطي

نادر فوز

الإثنين 2019/12/02

انضمّ ناجي الفليطي إلى لائحة أسماء ضحايا السلطة، التي أفقرت الناس وسلبت أموالهم وعجزت عن تأمين فرص العمل والإصلاح طوال ثلاثة عقود.

من ينظر إلى صورة ناجي، يعتقد أنه في الخمسين من العمر. وإذ به لم يتجاوز الأربعين بعد، أب لطفلين، عاطل عن العمل تراكمت عليه الديون – وهي مبلغ زهيد - ولم يعد قادراً على تأمين ألف ليرة يعطيها لابنته لتذهب إلى المدرسة. علّق نفسه على حبل وتدلّى منه، وأنهى هذا الكابوس إلى غير رجعة. هرب من عائلته، من عرسال والبقاع ومن كل الأماكن.

على جدول ديون ناجي في دكّان الحي، ما يقارب مئتي ألف ليرة، لمواد أبسط ما يقال عنها أنها أساسية: خبز، طحين، زيت، سكر، أرز، برغل، ملح. وصلت الحال بناجي وغيره من أبناء عرسال، وغيرها من الأطراف شرقاً وشمالاً وجنوباً، حدّ "شحذ الملح". هذه عبارة بالعامية ظننا أنها بعيدة عن الواقع، وإذ بها تترجم في قصة ناجي الفليطي. هو كان قد ترك السلك العسكري قبل سنوات. ليس ترفاً بل اضطراراً للبقاء قريباً من عائلته وزوجته مريضة العضال. فالمصائب لا تأتي فرادى. جهد ناجي، حسب اخته نجوى وغيرها من أفراد العائلة، لإيجاد عمل. فكانت مناشر الحجر المكان الأنسب لتحصيل ما يجب. لكن الأزمة امتدّت إلى هذا القطاع كما غيره.

المياومون المعزولون
الظرف الاقتصادي والإجراءات المصرفية والتجار، الذين لا يقبلون إلا المال نقداً، ضربوا قطاع الحجر في عرسال. وفي هذه البلدة، أغلب العائلات تعمل في الحجر. ومنذ شهرين تقريباً، أكثر من 2000 عامل مياوم في ورش المقالع ونشر الحجر توقّفوا عن العمل. أي بات على الأقل نحو عشرة آلاف فرد من رجال ونساء وأطفال.. معرّضين للجوع والعوز. باتوا مهدّدين باليأس نفسه الذي غلب ناجي. باتوا على لوائح الضحايا الفعليين للأزمة الاقتصادية الممنهجة، التي لم ولن تجد السلطة لها حلاً، طالما أنها تعتمد سياسة تقاسم الحصص والمصالح الشخصية، غير آبهة بصرخة أكثر من مليون ونصف مليون لبناني نزلوا إلى الشوارع منذ 17 تشرين الأول الماضي. هؤلاء المياومون باتوا أيضاً معزولين عن العالم الخارجي. فإذا كانت الأطراف مغيّبة أساساً عن المشهد السياسي والإعلامي، تكون الفئات الضعيفة فيها تعيش تهميشاً مضاعفاً. التهميش العام والتهميش الخاص داخل القرى.

حكايا من عرسال
حالة ناجي، ليست فردية ولو أنها تختصر قصص الآلاف الذين باتوا يدورون على منزل أخ أو أخت للحصول على رغيف أو اثنين يكفي عائلاتهم ليوم كامل. حكاية تضاف إلى مئات الحكايا من عرسال نفسها، عن شابات وشبان توقفوا قسراً عن الذهاب إلى الجامعات لتوفير مال النقل وتأمين الطعام. وقصص أطفال يلزمون المنازل لأنّ لا مال لإيصالهم إلى المدارس ولا إلى تحميلهم رغيف لبنة يملأ جوعهم ووقتهم عند وقت الفرصة. وقصص مرضى كثر لم تؤمّن لهم مستلزمات العلاج والدواء، يتناولون الأعشاب بدل الخضوع لعمليات جراحية. وفي البلدة أيضاً مبادرات فردية من أرباب عمل، يحاولون التخفيف من أعباء موظّفيهم. فيوزّعون عليهم طحيناً ومحروقات ومواد إعاشية أخرى، ولو أنّ الشغل متوقّف والوضع صعب. وتبقى هذه مبادرات فردية ومحدودة، عاجزة عن تأمين واحد في المئة من احتياجات الناس ولا أفق لديمومتها. 

انهزام الدولة والأحزاب
من عرسال، وغيرها، مشاهدات لعمل جمعيات إغاثية وإنسانية تخصّص أكثر من نصف موازناتها للرواتب واللوجستيات. وهي جمعيات تحاول ملء فراغ الدولة. هذه الدولة التي تكرّس عرسالُ، وكل الأطراف والأرياف، انهزامها وانهزام مؤسساتها. فغياب الأخيرة عوّضت عنه الأحزاب في ظروف الانتخابات والأزمات السياسية. لكن في زمن الأزمة الاقتصادية الكل تراجع وباتت الحال معدومة. المستزلِمون جائعون أيضاً ولن يطعموا أطفالهم صورة زعيم، ولن يسدّدوا فواتيرهم من رصيد كرامة مزعومة. وما بنته أحزاب السلطة طوال عقود من الحرب والسلم ونهب المال العام، لا بد أن تدفع ثمنه.

انتحر ناجي الفليطي نتيجة سياسة الدولة ونهج أحزابها. هذا ما يجب قوله علناً. موته ليس حالةً فردية، بل واقع جماعي يجب أن يهزّ الزعماء عن كراسيهم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024