حديد وميليشيات ومسدسات وصواعق للأمن الشخصي والجماعي

زينب كنعان

السبت 2021/04/03
تكاد لا تخلو المفكرة اليومية اللبنانية من حادث أمني: قتلٌ، أو سرقة، أو اعتداء أو تعنيف أو إطلاق نار... وفي ظل أوضاع البلاد الاقتصادية المتردية وارتفاع سعر صرف الدولار، ازدادت معدلات جرائم السرقة والنشل إلى مستوى مرتفع مع الضغط الاقتصادي والاجتماعي.

منظمات وسياسيون
وحذّرت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "الفاو" وبرنامج الأغذية العالمية من انعدام الأمن الغذائي لجزء من سكان اليمن وسوريا ولبنان والصومال، ونبها إلى إمكانية أن تؤدي الأزمة الاقتصاديّة في لبنان إلى ارتفاع مستوى الاضطرابات وأعمال العنف.

هذا المشهد المتفلّت الذي تشهده البلاد تحت ضغط التفكير من جديد بنظرية الأمن الذاتي، لا لشيء إلاّ لأن الدولة تبدو عاجزة عن فرض الاستقرار من خلال مؤسساتها المنوط بها تحقيق الأمن. وتُسمع أصواتا رسمية من نواب ورؤساء حكومة سابقون تدعو إلى تطبيق الأمن الذاتي. ولوّح بعض النواب اللبنانيين بالعودة إلى هذا النوع من  الأمن في مدينة زحلة. فغرد النائب جورج عقيص قائلاً: "أدعو جميع الزحلاويين إلى اليقظة، إذ يبدو أنّ الآتي على صعيد أمن المدينة صعب. وأضاف: "لن نقف مكتوفي الأيدي إذا استمر الاعتداء علينا وعلى أرزاقنا دون رادع، ونحن نتقن الدفاع عن النفس". وكان النائب نجيب ميقاتي قد صرّح: "أنّه على استعداد لحمل السلاح والدفاع عن مؤسساته إذا ما تعرضّ للاعتداء". وهذا بعد التظاهرات في طرابلس أثناء الإغلاق بسبب جائحة كورونا.

حديد وكاميرات
وانتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة تصفيح أبواب بعض المحال التجارية والمصارف والمنازل. وهذا من تراث الحروب الأهلية وإرثها. وأُضيف إلى ذلك تثبيت كاميرات مراقبة في كل مكان، وعلى الزوايا المحيطة بمنشآت اقتصادية.

تخبرنا خديجة الخمسينية التي تقيم منفردة في منزل مؤلّف من طبقتين، أنها اضطرت لتركيب كاميرات مراقبة في محيط منزلها، إضافة إلى باب حديد، بعد سماعها بحوادث سرقة متكررة في المنطقة المقيمة فيها. وهي تخشى الخروج ليلاً بعد تعرضها مرة لمحاولة اعتداء وسرقة. لقد حاول شاب يقود دراجة نارية أن ينشل محفظتها اليدوية التي تحملها، وهي غير قادرة على الدفاع عن نفسها.

لكن هذا كله لا يشكّل حلاً ولا يمنع السرقة التي تزداد معدلاتها يوماً بعد يوم، إضافة إلى عدم قدرة جميع المواطنين على تأمين كلفة هذه الإجراءات.

أمن ذاتي أم ميليشيات؟
ومع ازدياد معدّلات السرقة والجريمة وغياب أجهزة الدولة وتقصيرها في فرض الأمن والاستقرار، يُطرح الأمن الذاتي حلاً بديلاً عن أمن الدولة. فالناس لن يسكتوا عن الفراغ الأمني، ويقفوا مكتوفي الأيدي حيال السرقات والجرائم والاعتداءات.

وكانت "الدولية للمعلومات" قد نشرت تقريرًا عن "زيادة السرقة والقتل، واستمرار سرقة السيارات بداية العام 2021". وجاء في التقرير استنادًا إلى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي: "شهد لبنان خلال شهري كانون الثاني وشباط 2021 ارتفاعًا في جرائم القتل والسرقة، مقارنة بالفترة ذاتها من العام 2020، بينما استقر صافي عدد السيارات المسروقة، وتراجعت حالات الانتحار وحوادث السير".

ولكن عندما يأتي الحديث عن الأمن الذاتي لا يمكن تجاهل الدور المنوط بالجهات المسؤولة. علماً أنه من الصعب تحقيق هذا على أرض الواقع على صعيد لبنان، من دون تدخّل الأحزاب. ففي أغلب البلدات والقرى تتولّى الأحزاب المسيطرة الحراسة الليلية. ولكن ألا يسمح هذا الأمر باستغلال هذه الجهات حجّة فرض الأمن لبسط نفوذها أكثر؟ ومن اللافت أن بعض البلدات ينتشر فيها مسلّحو الأحزاب، تحت ستار الحماية والأمن البلدي، عبر عناصر شرطة البلدية. فيما جميع عناصر شرطة البلديات هم في الأغلب ينتمون إلى أحزاب، وقد دخلوا السلك عبر أحزابهم.

ويروي المواطن حبيب.ح أنه "في ليلة واحدة سُرِق ما يزيد عن 50 بطارية سيارة من بلدة كفرحتى الجنوبية. وأثناء فرار الشاحنة التي يقودها اللصوص مع البطاريات، فوجئوا بحاجز لأبناء البلدة من المنتسبين لأحد الأحزاب المعروفة. لكن سائق الشاحنة لم يتوقف، وصدم شاباً يدعى م. ح. وقتله على الفور".

ونسأل أحد العناصر الأمنيين المنتسبين لأحد الأحزاب في الجنوب، عن مصدر القرار في حال وجودهم على الأرض أمام هكذا حالة (سرقة)، ومن يصدر الأمر بإطلاق النار على المشتبه بهم؟ فيجيب (ح.ج): "يكون الأمر للقيادة في البلدة، ولكن في مثل هذه الحالات يتصرّف العنصر بما يناسب الظرف".

ولا شكّ في أن تراجع حضور أجهزة الدولة يسمح للناس باللجوء إلى الأمن الذاتي. والأدهى من تراجع حضور أجهزة الأمن والقضاء الرسمية، هو المخافر المحلية. ففي طرابلس ألقى أحد عناصر شعبة المعلومات القبض على لص كان يسرق بيت جيرانه. ولما أحضره إلى أقرب مخفر في المدينة لتسليمه، قال له آمر المخفر: "عليك أن تأخذه معك وتحتفظ به حتى الصباح، لأنني لا أستطيع استلامه واعتقاله في الليل". وهذا يوازيه تلكؤ جهاز القضاء في التحقيقات وبت القضايا بالسرعة المطلوبة.

شراء السلاح
وعرف لبنان منذ زمن بأنه سوق نشط لتجارة السلاح. وذلك بسبب الحرب الأهلية التي أرخت بثقلها على المناطق كافة لمدة طويلة. ومع تأسيس الأحزاب والتنظيمات تعسكرت ثقافة اللبنانيين وأقبلوا على التسلّح، وصار السلاح جزءاً من ثقافة أغلب المواطنين.

وبعد الحرب أعرض الناس نوعاً ما عن السلاح واقتنائه. ومع تجدد الحوادث الأمنية في لبنان، ازدهرت تجارة الأسلحة، وخصوصاً مع بدء الحرب في سوريا. فنشط سوق السلاح في لبنان، وأقبل البعض على اقتناء السلاح وشرائه، رغم ارتفاع أسعاره بالعملة الأجنبية.

واليوم تتفاون ظاهرة التسلّح وانتشار السلاح بين منطقة وأخرى. ويفيد (ح. ج.) "أن تجارة السلاح عادت لتزدهر من جديد في كل مناطق لبنان". وعن مصدر السلاح قال: "المصادر كثيرة وأكثرها يأتي عبر الحدود المتفلتة مع سوريا، حيث كميات السلاح لا تحصى".

وفي حديث لنا مع أحمد (اسم مستعار) أخبرنا أنه أضطر لشراء مسدّس بقيمة 500 دولار بهدف الدفاع عن نفسه، في حال تعرّض لاعتداء. فهو صاحب محل تجاري ويخشى من التعرّض للسطو خلال تنقلّه. واللافت هو خوفه من العمّال في مؤسسته التجارية قائلًا: "صرنا نخاف القريب قبل الغريب". أما عن ترخيص مسدسه فقال: "الترخيص صعب اليوم، والكل صار مسلّح بهالبلد".

وعامر (اسم مستعار) شاب في العشرين من عمره يعيش في منطقة يعتبر حمل السلاح فيها مستغرباً. لكن ومع ارتفاع نسبة السرقات صار عامر يعتبر أن "الأمن الذاتي هو الحلّ". فاشترى سلاحًا تركي الصنع بمئة دولار، يقول إنه "مسدّس صوت لا أكثر، لكنّه يقتل إن كان الهدف على مسافة قريبة".

مسدسات وصواعق وفلفل للتحرّش
وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل الفئات الأكثر عرضةً للمضايقات والاعتداءات والتحرش الجنسي، وهي تطال الفتيات والنساء في الأماكن العامة وغير العامة. وحالات التحرّش التي نشاهدها توثّق بروايات تجارب على وسائل التواصل الاجتماعي. وباتت هذه الشهادات مخيفة، إضافةً إلى حوادث النشل التي تزداد وتيرتها.

وحيال هذا الوضع تلجأ بعض السيّدات إلى حمل ما يشعرهنّ بالأمن في جيوبهنّ وحقائبهنّ، مثل رذاذ الفلفل المعّد في المنازل والأدوات الحادة التي يمكن إخفاؤها في الحقيبة، ولجأت بعض النساء إلى حمل المسدسّات للدفاع عن أنفسهنّ.

ميراي من سكّان طرابلس، تخبرنا أنّ مجموعة من الطرابلسيين كانوا قد طرحوا على منصة فيسبوك فكرة الأمن الذاتي في الشوارع والأحياء. لكن الفكرة جوبهت بالرفض. وأمام ما تشهده المدينة من حوادث سرقة وتشليح وقتل، تقول ميراي إنّها لجأت إلى حمل السلاح منذ سنة تقريبًا: "طالما لا توجد دولة تسيّر دوريات في الطرق والأزقة. وبات حمل السلاح خياري الوحيد لحماية نفسي وأولادي".

أما فاطمة في بلدة جنوبية فتقول إنها اعتادت على حمل السكين في حقيبتها لفترة طويلة، لأنها تنتقل من مدينة إلى أخرى بحكم عملها، وقد تعرّضت "كأي امرأة للتحرّش والمضايقات، والتحرّش بنظرها أصعب من السرقة".

ومع ازدياد حالات العنف على الطرق حثّت فاطمة زوجها على شراء السلاح، فحصل على ترخيص. أما هي فتحمل السلاح من غير ترخيص، وتضيف: "لقد تعايشت مع السلاح وتقبلته، لأنني كنت أنتمي لأحد الأحزاب وخضعت لدورات تدريب على الأسلحة. والدفاع عن النفس بات ضروريا للجميع، لأننا نعيش في مجتمع البقاء فيه للأقوى".

أما سارة فلجات إلى استخدام "أداة تحملها على الدوام، وتشبه قلم حمرة الشفاه، وهي صاعق كهربائي "بفولتاج" خفيف، للدفاع عن نفسها إذا ما تعرّضت للتحرّش في المواصلات العامة".

غموض المستقبل
كأن لا أحد يتنكر اليوم للحماية الذاتية وللأمن الذاتي البلدي أو المناطقي، في ظل غياب فاضح لأجهزة للدولة أو عجزها في ظروف اقتصادية متردية وليرة منهارة ووصول الحد الأدنى للأجور إلى 65 دولاراً. لذا يطرح ألف سؤال وسؤال اليوم: هل نحن ذاهبون إلى انهيار تام وسقوط للدولة وحالة من الفلتان الكامل؟ وهل نحن أمام عودة حتمية لسلطة الأحزاب والميليشيات، التي قد تساعد في تهيئة الظروف لاشتعال فتيل الحرب الأهلية من جديد، مع هذا اليبث والشحن الطائفيين والمذهبيين؟ الأرجح نحن لا نعلم ما الذي ينتظرنا.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024