بيروت-الرياض: من حافة الخراب إلى العمران الداخلي الموحش

محمد أبي سمرا

الثلاثاء 2021/10/12

هنا، على حافة بلاد الخراب والتحلُّل، مريحٌ أن يمكثَ المرء وقتًا قصيرًا عابرًا، وحيدًا وفارغًا، مستسلمًا في استرخاءٍ إلى خواء روحه، وشعوره بالانفصال والمغادرة. وفجأة ينتبهُ إلى أنه هو نفسه ذاكَ الشخص الذي كانه وراح ينطفئ أو يبتعد بطيئًا بطيئًا منذ سنتين، وها هو يلتقي به أو يتوهم أنه يستعيده ويتعرف إليه من جديد، هنا على هذه الحافة: مطار بيروت.

الخراب في الداخل
حتى الكآبة هنا مريحة على هذه الحافة الكئيبة. مريحة رغم كآبة اليقين بأن الانفصال وهمي ومستحيل، والخرابَ والتحلّل ليسا في الأشياء والعمران والأماكن وحدها، بل مقيمان إقامة حميمة في الداخل، في صميم النفس والوجود والحياة. وليست هذه اللحظات سوى فسحةٍ أو فاصلٍ زمني عابر، في انتظار إقلاع طائرة إلى الرياض، لحضور معرضها الدولي للكتاب (راجع "المدن"). وكل دعوة إلى مغادرة هذه البلاد صارت احتمالَ فرارٍ موقت يَصدُق عليه ذاك القول القديم: إذا خَرِبَتْ حياتَكَ في هذا الركن من العالم، فهي خراب أينما حللت.

فلنقل إذًا أو لنفترض أن كل مغادر يحمل في داخله خرابه الشخصي، كأنه قدرٌ لا راد له، وينطوى على حِدادٍ لا عزاء فيه وبعده. ولا معنى للتبرؤ من ذاك الخراب الذي ساهم فيه كل شخص على قدر موقعه ومستطاعه، بإدراكٍ منه أو من غير إدراكه. وقد يرتاح المتنصلون منه والمقيمون فيه بلا رغبةٍ في الفرار والمغادرة. أما المصابون بتلك الرغبة-اللوثة فلا شفاء لهم منها، ولا من خرابهم أينما رحلوا وحلوا، ومهما فعلوا.

الخراب في الخارج
ومن هنا، من على هذه الحافة، من خلف زجاج نوافذ الردهات الكبيرة، تلوح فجأة التفاتةٌ إلى ذاك الشريط من عمران البؤس المزمن الذي يحاذي مدارج المطار الكئيبة: كأعشاب الخريف اليابسة المهملة هناك بين المدرجات، وفي المنبسطات الصغيرة ما بعد المدرجات، وهي تنتظر حريقًا ما غامضًا. فالمصائب لا تأتي فرادى، يقولون، نسجًا على منوال وعي سحري أو ديني يَنبُت كالفطر، أو ينتشر كنار في هشيم بلاد المآسي القدرية. كاختلاط النزوح والتشرد بالدم والعرق والإسمنت في التاريخ العنيف لتشييد ذاك الشريط العمراني على ما كان صحراء زيتون صغيرة معمرة، فاجتثت قبل عقود. ومن يعلم محطات ذلك التاريخ وعايشها، يصعب ألا يشعر أن في نفسه وحياته شيء منها. وشيء من تلك العمارات العالية الجرداء الجديدة التي ارتفعت وتراصفت كفطر أهوج على تلال كانت جرداء، فنشأ عليها وفي عماراتها مجتمع مضطرب شبه برّي في عشوائيته وأخلاطه السكانية المتنافرة شطورًا من الفئات المتوسطة الدنيا الهاربة من مناطق شتى.

ربما يقيم في نفس كل شخصٍ من هذه البلاد وحياته شيء من هذا التنافر العشوائي الذي لا قاع له ولا يستقر أو يثبت على حال. كالتاريخ الاجتماعي والسياسي لهذه البلاد التي اكتمل قدرها بعد عقود من الغثيان في العمران والاجتماع وسياسة القتل والاغتيالات. وكلما اكتملت حقبة من حقب هذا الغثيان، تطرد البلاد إياها جيلًا أو شطرًا من جيل سكانها. وقد يمكث بعض المطرودين لحظاتٍ عابرة هنا، على هذه الحافة، مستغرقين مثلي في تداعيات وأفكار تشبه الغثيان، قبل أن يغادروا حاملين خرابهم الداخلي الذي لا شفاء منه ولا عزاء.

تذمرٌ وعربة مخلعة
والمصطفون هنا أمامي في النفق المعدني البالي، المفضي إلى مدخل الطائرة، معظمهم في أعمارٍ فتيّةٍ. وكلهم يبدون في عجلةٍ متوترة، كأنهم فارون أو في حال فرار. والأرجح أنهم عائدون إلى أعمالهم المنتظمة في مدن الصحراء، بعد عطلاتٍ أو إجازاتٍ صيفية انتهت هنا بين أهلهم في ديار العتمة والكآبة. إجازات أدمنوا عليها ولا مفرّ لهم منها، ويعودون لاستكمال إعالةِ أهلهم الذين تضاعفت حاجاتهم للإعالة.

وها هم يتذمرون قلقين في الممر. لقد أدمنوا التذمر والقلق أيضًا في بلاد الفوضى والغثيان في كل شيء. يتذمرون من اضطرارهم إلى الوقوف في صفٍ منتظم في النفق المعدني، كأنهم يستعجلون الفرار ودخولهم إلى الطائرة. فكل شيء هنا عرضة للاضطراب والخوف من عثرات مفاجئة تعطله وتحول دون المغادرة. يستغربون إمعان ملاحي الطائرة السعودية في تفتيش حقائبهم اليدوية تفتيشًا دقيقًا، ويرون في هذا الإجراء اعتداءً شخصيًا على حريتهم الفوضوية. ويتصاعد تذمرهم من إقدام أحد الملاحين على تفتيشهم بتحسس أجسامهم واحدًا واحدًا، قبل السماح لهم بالدخول إلى الطائرة.

فجأة يقول مسافر منهم إن هذا عملٌ غير قانوني، ومخالف لقواعد السفر والطيران المدني. كأنما الديار التي يغادرها هذا المسافر المتذمر تسري فيها القوانين بدقة ساعة سويسرية أو في محكمة العدل الدولية في لاهاي.

ينسون أي ديار هم يغادرون. وفي النفق المعدني المؤدي إلى الطائرة، لا يزال هناك متسع بعدُ للشعور بعنهجيات الفوضى والتذمر كيفما اتفق. وهي عنهجيات تشبه تلك العربة المخلعة التي لمحتُها مرمية لتقفل متفرعًا من النفق، وإرشاد المسافرين المغادرين إلى عدم اجتيازه، وتوجيههم نحو باب الطائرة. ومشاهد تلك العربة المحطمة على الموكيت العفن، لا بد أن يحدس أنها مرمية مهملة في مكانها منذ دهر. وبعد يومين اثنين، لما خرجت من الطائرة عائدًا من الرياض، ومشيت في النفق نفسه، لمحتُ العربة إياها على حالها، كأنها معلم يعلن الوصول إلى ديار الإهمال والخراب.

الصحراء والمدينة
طوال الرحلة من بيروت إلى الرياض تعرض شاشات صغيرة في الطائرة، رسومًا بيانية عن خط سيرها ومسارها، ارتفاعها عن الأرض والمسافة التي اجتازتها نحو الرياض التي يشير اليها اسمها المدون على الشاشة، من دون أن يظهر سوى وادٍ صحراوي أجرد خالٍ، ويبعث مشهده على الشاشة الصغيرة رهبة وانقباضًا في النفس. وهذا على الرغم من إدراك المشاهد أن ذاك الوادي الصحراوي، ليس سوى صورة جوية مصغرة للطبيعة، قبل نشوء المدينة – العاصمة النجدية والسعودية.

فماضي المنظر الصحراوي السابق على العمران، يبعث شيئًا من الخوف الغامض. ويكاد ينبئ أن البشر والعمران أضغاث أحلام أو أوهام سرابية، لم يبدّدها سوى تحليق الطائرة فوق الرياض في عتمة الليل، فإذا بها منبسطات هندسية مترامية تشعشع فيها الأضواء في مستطيلات ومربعات تفوق الحصر، وسط محاق الظلام الصحراوي الذي يحوط بالمدينة. لكن ذلك الخوف من المشهد الصحراوي في الرسم البياني على شاشات الطائرة، تحول إلى حدس بهشاشة سيطرة البشر على الطبيعة في هذه الصحارى المهولة الممتدة من مصر وسيناء إلى شبه الجزيرة العربية. كأنما جهود البشر وعمرانهم وحياتهم ليست سوى جزر صغيرة تقاوم ذلك البرّ الصحراوي المهول الذي تقتصر أنسنة الطبيعة الموحشة فيه على تلك الجزر الصغيرة.

العمران الداخلي
وعمران الرياض لمشاهده الغريب، منبسط وممتد، بلا تعرجات ونتوءات، ولا مرتفعات ومنخفضات. وعلى قدر انبساطه وامتداده الواسع الفسيح أمام البصر، يشعر المشاهد أنه يبعث في النفس والحواس شيئًا من الوحشة.  فيما ينكفىء أهله وسكانه الى داخله، وتقتصر حركة الاتصال والتنقل بين  كتله وفي أماكنه الخارجية العامة المفتوحة على السيارات وحدها. فقوة الطبيعة والمناخ الثقيلة الجافة الخانقة، تطرد البشر من الأماكن والفضاءات المفتوحة على السماء المنخفضة والثقيلة بدورها. وهو ثقل يتشبثُ بالحواس التي يصعب أن تتحرر منه وتأنس إلى التواصل إلا في الأماكن المسقوفة أو غير المكشوفة. وهذا يحتم أن تكون الأماكن العامة والحياة العامة لا تتعرض لقوة الطبيعة والمناخ، ومعزولة عنها، أو تقاومها مقاومة دائمة، وفي كل وقت تقريبًا. لذا تبدو كتل العمران الممتدة والمنبسطة والضخمة، جزرًا صامتة صمتًا كاملًا يشمل حتى السيارات المتحركة.

وحتى فنون العمارة في تشييد الأبنية وواجهاتها، وعلى اختلاف وظائفها، تبدو متقشفة، كأنها انعكاس لذاك الصمت أو الكتمان، ونظير ضرورة الانكفاء إلى دواخل الأبنية والمنشآت التي تتضخم فيها التجهيزات والأثاثات، لتناسب أحجامها الكبيرة، وكونها أماكن وفضاءات عامة داخلية. وقد يكون هذا التضخم في الفضاءات الداخلية، انعكاسًا للتقشف في فنون العمارة الخارجية التي لا وظيفة بصرية لها، ما دام الخارج وفضاءاته المفتوحة خالية إلا من السيارات. بلى هناك في الخارج وخطوطه المستقيمة، بُذِلَتْ جهودٌ جبارة في أنسنة المنبسطات الصحراوية المدينية بالخضرة والأشجار، كي لا ينسرح البصر في عراء خاوٍ أجرد يرهق الحواس.

وقد يفسّر هذا كله -أي انكفاء عالم العيش والتواصل إلى الداخل، هربًا قسوة الطبيعة والمناخ- أن تكون السيارة كبيرة ومن طراز الدفع الرباعي، أداة أساسية للتنقل في هذا المدى الفسيح المترامي المسافات. ويفسر أيضًا أن يكون للهاتف الشخصي المحمول بتطبيقاته الكثيرة، هذه القوة الدائمة والانتشار الكثيف والاستعمال الذي لا يتوقف، ويفوق السيارة في حضوره الدائم في أيدي سائر الناس، أينما حلوا.

ففي صالة الفندق، تبصر جمعًا من الرجال أو النساء جالسين/ات معًا متقاربين، لكن الجميع منصرف إلى شاشة هاتفه، ويندر أن يقطع انصرافهم هذا تواصل كلامي في ما بينهم.

مصادفات ولقاءات
في ليلتي الأولى في الرياض، اصطحبني لبناني يعمل في المدينة إلى شارع قال إنه يشبه شارع الحمراء في بيروت، ناسيًا أن ذاك الشارع البيروتي لم يبقَ منه سوى اسمه معلقًا فوق خراب المدينة. وكان ليل الرياض قد اعتدل طقسه نسبيًا، فسرنا على أرصفة الشارع العريض الطويل، فإذا عمرانه وعماراته على الضخامة والتقشف إياهما في المدينة كلها، وتتكاثر على أرصفته مقاهٍ ومطاعم مكشوفة، ويسير على الأرصفة مشاة يتكلمون في ما بينهم، كأنهم تركوا جانبًا هواتفهم المحمولة أو نسوها وانصرفوا إلى تواصل حضوري. وسرنا على الرصيف نحو نصف الساعة وسط مشاة قليلين، ودخلنا إلى متجرين أو ثلاثة للألبسة الجاهزة من ماركات عالمية، تعمل فيها نساء سعوديات وغير سعوديات. وعلى أرصفة المقاهي يتجالس أيضًا نساء ورجال وعائلات يدخنون النراجيل.

وانتقينا مقهى–مطعمًا بدا أن تجهيزاته ملونة وتطغى عليها زرقة بحرية أو سماوية صافية، وقطع أثاث وديكوراته لا أثر فيها للضخامة، فاستمرت جلستنا فيه نحو ساعتين، مؤنسين بين خليط من رواده المؤنسين، شأن العاملات والعاملين فيه.

وفي ليلتي الثانية جمعتني الصدفة بكاتب مغربي وآخر مصري مقيم ويعمل في الكويت. واستمرت الأحاديث بيننا ساعات عن المغرب ومصر وبيروت. وفي صباح نهاري الثالث غادرت إلى مطار الرياض، فصادفت في جناح فحوص كورونا شابًا عشرينيًا بدا أنه لبناني ويجري باكيًا محادثة هاتفية. ولما أنهى مكالمته، أخذ ينتحب مرددًا: يا حبيبتي يا أمي، ناظرًا إلى صورة على شاشة هاتفه بين يديه. وأخبرني أن أمه ماتت الآن في مستشفى بعكار. وفي محاولة مني لصرفه عن مصابه الأليم، سألته عن عمله في الرياض، فحدثني عن الشركة اللبنانية التي يعمل فيها وتجهز صالات المعارض وإنارتها، وأنه وعشرات من أمثاله اللبنانيين يقيمون في فنادق، وآخر عمل قامت به الشركة هو تجهيزها وإنارتها صالات معرض الرياض الدولي للكتاب.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024