استئناف محاكمة صناعيي البقاع: سياسة هزّ العصا تنفع

لوسي بارسخيان

الثلاثاء 2019/01/15

تستأنف في السادس عشر من الشهر الحالي، جلسات الدعاوى القضائية، المرفوعة من المصلحة الوطنية لنهر الليطاني بحق المعامل الملوثة للنهر. وها هو الإمتثال الثاني للمؤسسات، التي قدمت البراهين على مباشرتها بتركيب محطات التكرير، بعد أن حلّت "عطلة" عيد الغطاس الاستثنائية، كهدية تلقتها تلك الؤسّسات التي كانت قد طلبت من القضاء مهلة إضافية لإستكمال ملفاتها، بإنتظار أن يحدد موعداً بديلا لجلساتها، بعدما كان يفترض أن تعقد في السابع من الشهر الجاري.

أعداء الليطاني
هكذا، تبدو المصلحة الوطنية لنهر الليطاني ماضية في إجراءاتها القضائية، التي بدأت تثبت جدواها في الحد من تلوث النهر، بعد سنوات من المماطلة، ومن الشكاوى المتكررة من الضرر الفادح، الذي تلحقه الصناعات بمياه الليطاني. حتى بات هناك، وفقا لرئيس المصلحة سامي علوية، أكثر من41 معملا ملتزماً بتركيب المحطات في البقاع، متوقعا أن يرتفع العدد في الفصل الأول من السنة، بالتزامن مع استكمال المحاكمات القضائية، والتي ستشمل أيضاً المستشفيات والمؤسسات الصحية، بالإضافة إلى المعامل غير المرخصىة، والتي بوشر بملاحقتها تباعا أمام القضاء المختص.

اقتنع أصحاب المعامل إذاً، أن لا مفر من المباشرة بتكرير مخلفات صناعاتهم قبل تفريغها بالنهر. وسقطت محاولاتهم لشن حملة مضادة، في وجه مصلحة الليطاني، للتملص مما اعتبره علوية في حديث لـ"المدن"، مساراً طبيعياً لخطّة معالجة التلوث في بحيرة القرعون. فنوعية الصرف الصناعي، وما يحمله من مواد عضوية وغير عضوية، الخطر الأكبر عليها، منبهاً من أن أي حديث عن إنشاء محطات تكرير، من دون حل مشكلة الصرف الصناعي، سيجعل مياه الأخير تتدفق الى محطات التكرير وبالتالي تعطلها.

لا شك أن هذا المسار خلق "أعداء" كثيرين لمصلحة الليطاني، التي يقول رئيسها أنها جوبهت باتهامات الملوثين كما المنظفين، وتراكم عليها العتب من الوزارات، المعنية بتطبيق القوانين الرادعة للتلوث، وصولاً إلى اتهامها بعرقلة مستقبل الصناعات. فيما يشدد علوية، أن مصلحة الليطاني، بملاحقتها حتى المعامل غير المرخصة، تحمي الصناعة من المنافسة غير المشروعة، من خلال تطبيقها المعايير البيئية. وهذه وظيفة المهتم بالمؤسسات الصناعية، أي أن يمنع فساد التراخيص، ويلاحق المؤسسات غير المرخصة، بدلا من تحريض المؤسسات على الإمتناع على الإلتزام البيئي.

طرف الخيط
إذاً، ""أثمرت" سياسة "هز العصا". وباشر أصحاب المعامل على مضض بالبحث عن الحلول، بعدما استيقظوا مما اعتبر "كابوسا"، جعلهم يتخبطون في البحث عن تسويات بديلة. عوّل بعضها على تراجع إصرار مصلحة الليطاني عن الملاحقات القضائية، نزولا عند الضغوط السياسية، التي مورست، بحجج حماية الصناعة وغيرها.

وأمسكت المعامل أقله بطرف الخيط، من خلال اعترافها أولا بالتلوث الناتج عن نشاطها. وانطلقت باكتساب معرفة متجددة، حول كيفية معالجة التلوث الناتج عن صناعاتها. مبتدئة، وفقا لنائب مدير غرفة التجارة سعيد جدعون، من نقطة ما دون الصفر، خصوصا أن أي من معامل البقاع، ليس لديه تجربة سابقة بتركيب محطات التكرير، تسمح بإستنساخها في معامل أخرى. وبالتالي جميع أصحاب المعامل يفتقدون إلى "المعرفة" في هذا المجال.

اللافت في الأمر، أن جميع هذه المعامل "المهملة"، زُودت منذ سنوات بنسخة عن قرار وزارة البيئة 539\1، الصادر في سنة 2015، والذي يمهل المؤسسات الصناعية حتى أواخر 2020 كحد أقصى، من أجل استكمال إجراءات الإلتزام البيئي، المنصوص عنها في القرار رقم 8\1 الصادر منذ سنة 2001، التي من دونها تسحب الرخص من المؤسسات الصناعية. وهو قرار لم يكن إلا ليؤكد المؤكد، من خلال شروط الاستحصال على الرخص الصناعية، التي يحددها القرار رقم 14/1 الصادر منذ سنة 2012، والذي يشترط، من ضمن معالجة كل النفايات الصادرة عن عملية التصنيع، معالجة "النفايات السائلة" بمحطات تكرير خاصة بالمعمل، وفقاً للشروط الصحية، قبل تجميعها بالحفر الصحية، ووصلها بالمجرور العام.

المفاجأة والإرباك
كل هذه القرارات السابقة لم يؤخذ بها جدياً في مرحلة سابقة، رغم وجود الثغرات الكثيرة التي تحتويها، ومنها حصر المعالجة من قبل وزارة البيئة بمعامل الفئات الأولى والثانية والثالثة، مع إسقاط الفئات الرابعة والخامسة، الأكثر إنتشارا في مناطق البقاع، ولا سيما ما يتعلق منها بالصناعات الغذائية الصغيرة كالألبان والأجبان، بالإضافة إلى الخمور، وغيرها من الصناعات الغذائية، والتي فوجئت جميعها بتلقي البلاغات القضائية من دون سابق إنذار.

فوجئ الصناعيون بسيف العدالة مسلطاً على رقابهم، فسارعوا إلى البحث عن الفلاتر، تحت ضغط المهل القصيرة المعطاة لهم، لتتكشف معها العقبات الكثيرة، التي قد تدفع الصناعيين في سباقهم مع الوقت إلى مخاطر الإنزلاق نحو حلول غير مختبرة سابقا. وبالتالي، قد لا تثبت جدواها في تأمين المعالجة الناجعة لصرفها الصحي.

وعليه، يشكل تخبط أصحاب معامل الألبان والأجبان نموذجاً، عن هذا الإرباك الذي وقعت فيه الصناعات الملاحقة بتهمة تلويث الليطاني. فإهمال الشق البيئي جعل بعض المعامل يتغاضى إنشائياً، حتى عن المساحات التي تتطلبها تقنيات التنقية.

وإذا كانت صناعة الألبان والاجبان هي من الصناعات الأكثر رواجاً في البقاع، فإن لا فرق بين معمل صغير ومعمل كبير، إلا بكميات المخلفات الصناعية (المصل)، التي ترمى في شبكة التصريف الرئيسية. وهي وإن شكلت "متمما غذائيا" صحيا للإنسان كما الحيوان، إلا أن تصريفها في الشبكة الأساسية يسبب نقصاً فادحاً للأوكسجين في المياه العذبة، ما يسهم في قتل الحياة ببحيرة القرعون وغيرها.

كلفة التدبير البيئي
لا تقل الصناعات العضوية الأخرى خطورة عن الألبان والأجبان، ذلك أن جميع هذه الصناعات، كما يشرح الخبير في تنقية الصرف الصناعي جهاد غرة لـ"المدن"، ترفع من نسبة الـBOD أو الـ BIOLOGICAL OXYGEN DEMAND والـCOD أوCHEMICAL OXYGEN DEMAND في المياه، أي إنها تمتص كميات أوكسيجين كبيرة من المياه، وتقتل الحياة فيها. وعليه، إذا كان عصير العنب مع المياه، يصلح كمواد عضوية مغذية للأرض، فإن تفريغه في النهر يشكل عاملاً ملوثاً. الأمر الذي يضع في دائرة الإتهام كل الصناعات "العضوية"، ومنها صناعة الخمور، الرائجة في زحلة وقضائها، وشكّل استدعاء صناعييها نكسة كبيرة لها، لما يمكن أن تلحقه من تشويه بسمعتها العالمية، التي بدأت تكتسبها منذ إنتشار الخمور اللبنانية وتنظيم أيامها العالمية في مختلف بلدان العالم.

وبصرف النظر عن الإهمال الإداري، الذي شجع الصناعيين على إهمال المعالجة البيئية لهذه الفضلات الصناعية، وسمح لسنوات باستبدال الإلتزام العملي بتعهدات خطّية، في ظل إهمال من قبل بعض الصناعيين، حتى للتراخيص الصناعية، التي جرى استبدالها بتسويات أوضاع.. فإن ثمة مسببات أخرى، ساوت بين المعمل الكبير والمعامل الصغيرة في إهمال هذه المعالجات، وأبرزها عامل الكلفةـ فهذا ما يبدو ضاغطا بشكل أكبر على الصناعات الصغيرة منه على الصناعات الكبرى، القادرة على الإستفادة من قروض ميسرة بفوائد متدنية، ضمن البرامج المدعومة.

حلول جماعية
فوفقاً لغرة، فإن تجهيز المحطة قد يوازي من حيث الكلفة تكلفة شراء معدات في أي معمل، إلا أن الفرق هو مع تحسين المعدات يأمل المصنع باسترداد الاستثمار. فيما كلفة تشغيل محطة التكرير لا يمكن استردادها، ويجب إدراجها من ضمن النفقات الإضافية. ومن هنا، يعتبر أن عامل الوقت يتنافى مع التروي المطلوب في دراسة كل الخيارات المتوفرة، لإختيار التجهيزات الأقل كلفة استثمارياً وتشغيلياً، والتي تؤمّن بالوقت نفسه النتائج المرجوة. فبعض الصناعات، ومنها صناعة الخمور، ينحصر إنتاجها بأشهر قليلة من السنة. وعليه، فإن إتباعها محطات التكرير الشائعة عالميا، والتي يعتمد معظمها على تقنية تربية البكتيريا المعالجة، يمكن أن يوقعها في أزمة مستمرة. ومثلها معامل الألبان والأجبان الصغيرة، التي قد لا تتمكن من تأمين كمية الدفق اللازمة لتشغيل المحطة بشكل مستمر. وهذه عقبات بدأت تطرح فكرة الحلول الجماعية، وخصوصا فيما يتعلق بمعامل الألبان والأجبان، التي تحتاج بدورها إلى التزام فردي أكبر من المعامل، في ظل غياب الدور الرسمي، والفوضى السائدة، حتى في إنشاء المصانع، وغياب تجمعاتها أو مناطقها الصناعية، خصوصا أن الجهات المانحة والداعمة لمثل هذه المشاريع البيئية، لم تعد تثق بالتزام المصانع، كما البلديات في تأمين إستدامتها.

في المقابل، تتحمل الدولة وإهمالها الطويل لموضوع معالجة الصرف الصناعي، جزءاً من مسؤولية هذا الإرباك اللاحق بقطاع الصناعة. وهي، كما يرى الاقتصاديون، لا يمكنها أن تستيقظ فجأة، وتحاسب الصناعيين على التقصير. وإذا كان من مسؤولية يجب تحملها، فإنها يجب أن تكون مشتركة. ومن هنا دعوتها للبحث عن أرضية مشتركة، تخرج الليطاني من وضعه المزري. لكن، في الوقت نفسه تحافظ على قطاع الصناعة في المنطقة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024