الحريريّة ومأساة البيارتة: منزلٌ قديم مندثر وبنايةٌ كالحة كلبنان

محمد أبي سمرا

السبت 2022/01/15
روى المادة الأساسية من هذه السيرة العائلية- الاجتماعية والشخصية شابٌ بيروتي ثلاثيني. ومدارها المجتمع البيروتي الصامت، وقصته المأسوية مع الحريرية. وهي تتناول أيضًا أحوال فئات بيروتية تشعر أن سنوات "المجد" الحريرية التي تجلّت بالنهوض وإعادة إعمار وسط بيروت، كانت وبالًا اقتصاديًا وعقاريًا عليها. فالفئات ما دون الوسطى والشعبية البيروتية، ترى أن النهوض والازدهار اقتلعاها من ديارها في بيروت ونفياها بصمت إلى عراء العمران "البرِّي" والموحش في بشامون وعرمون (راجع "المدن"). وهذه حلقة ثانية من هذه السيرة- الشهادة المروية في صيغة المتكلم، واستُدخلت في سياقها هوامش وتعليقات قد تملأ بعض فجواتها.

منزل الإرث القديم
كان جدي لوالدي يعملُ ونّيشًا -أي مشغّل رافعات- في مرفأ بيروت، ربما منذ الأربعينات، وقد يكون استمر في عمله هذا حتى الستينات. وعن والده ورثَ، على الأرجح، منزلًا قديمًا أعرفه في محلة عائشة بكار البيروتية. وربما فيه كان قد وُلد ونشأ وشبّ وتزوج وأنجب أولاده وربّاهم... ثم توفي وورّثهم إياه. ومسألة التوريث أكيدة، لأن ذاك المنزل القديم تحوّل استثمارًا عائليًا مشتركًا فاشلًا في مطلع سنة 2000.

أُكثِر من قول ربما، على الأرجح، لعل، وقد، في ما يتعلق بسيرتَي عائلة والديّ، لأسباب كثيرة. ففوق أن ذاكرتي الشخصية -أنا المولود سنة 1987- شديدةُ التشوّش والتشظّي، كثيرة الثقوب والفجوات، يندرُ كلامُ أمي وأبي عن نسبهما، قدر قلّة اهتمامهما باستعادة سيرتيهما العائليتين. ربما لأنهما سليلا عائلتين بيروتيتين عامّتين أو شعبيتين. وقد يكون مردُّ هذا كله إلى أنني شخص -وربما من جيل- لم يعد يقيم وزنًا للإرث والنسب في حياته. ولعل التقليل من وزن هذين الأخيرين واستبعادهما، ليسا أمرًا إراديًا. والأرجح أن ذلك وليدُ ضعفهما لدى أهل الضعف في بلاد دينها ومعبودها الإرث والنسب.

ومنزل جدي القديم ذاك، المندثر في عائشة بكار، كان مشيدًا بحجارة رملية، ومسقوفًا بالقرميد، وتحوطه حديقة صغيرة أتذكرها بائرة كأنها مهجورة. وقد نجّتْهُ وأنقذته "الواسطة" على الطريقة اللبنانية الشائعة المعهودة، من أن يُصنَّف في تسعينات الهبّة العقارية ما بعد الحروب الأهلية، منزلًا تراثيًا "موقوفًا" على لائحة جرد أو إحصاء البيوت التي صنّفتها وزارة الثقافة العتيدة تراثية قديمة. فجعل ملاّك البيوت أو ورثتها يهملونها ويتركونها تتصدّع، أو يصدّعونها عمدًا، لتنجو من لائحة الوقف التراثي المزعوم. وهو مزعوم وعديم المعنى، طالما ادّعته وزارة شكلية، لا عمل ولا وظيفة لها سوى تكثير الوزارات والوزراء والمناصب والموظفين، وتقاسمهم والتناحر على استتباعهم بين أهل القوة، الذين جعلوا موظفي القطاع العام جيشًا لجبًا لمواليهم ومحاسيبهم... فأسهمت إعالتهم في أفلاس الدولة والبلاد أخيرًا.

أما طيف ذاك البيت "التراثي" المندثر، فلا يزال حيًا في ذاكرتي، رغم اضطرابها وتشوّشها. ويحملني طيفه أحيانًا على تخيّل كيف كانت حياة العائلات البيروتية في شباب جدي وطفولة والدي المولود سنة 1956 وصباه: أتخيَّل أن الناس كانوا آنذاك أهلًا وعائلات، ويعيشون مطمئنين، وعلى وئام بسيط في حياتهم وعلاقاتهم يشبه بيوتهم القديمة المتوارثة. ويتهيأ لي أنهم كانوا راضين مرضيّين آنذاك. فلا تساورهم أو تنبعثُ في مخيلاتهم -كحالنا اليوم- نداءاتٌ تصلُهم من عوالمَ أخرى بعيدة وغريبة، فتزوّدهم بمثالات وصور مفارقة تقلقهم وتُهِيبُ بهم وتدفعهم إلى السعي في طلبها من طريق استدخالها في وجدانهم وأنفسهم وتصوّرِهم لحياتهم وعلاقاتهم، فتصدّع ذاك الوئام المقيم فيها على مثال إقامتهم في بيوتهم القديمة المتوارثة.

وقد يكون تصوّري أو تخيّلي لذاك الوئام القديم صنيعَ وراثتي عن والديَّ شعورًا مكتومًا أو صامتًا بأنهما أُرغما على مغادرة بيروت أو اقتلعا منها، كسواهم من أهل الضعف البيارتة، للسكن والإقامة في منافي عمران بشامون وعرمون "البري" الموحش. وهو شعور فاقمته حياتي وإقامتي المضطربتان المتشظيتان في بيروت وخارجها.

البناية العارية الكالحة
هي هبّة عقد التسعينات العقارية في بيروت رفيق الحريري ما أرغم والدي وأعمامي وعمّاتي -وهم خمسة ورثوا وورثن منزل جدي القديم، والدهم، في عائشة بكار- على شراء شقق لسكنهم وإقامتهم مع زوجاتهم وأزواجهنّ البيارتة كلهم، في بنايات العمران التجاري الجاهز خارج بيروت. أما بيتهم القديم الموروث، فقد صوّرت لهم الهبّة العقارية البيروتية الحريرية إياها أن هدمه وتشييد في مكانِهِ بنايةً كتلك البنايات التي اشتروا فيها شققهم في المنافي البيروتية، تُكسب كلًا منهم عائدًا ماليًا وعقاريًا يفوق بأشواط أثمان شققهم، لأن العائد العقاري البيروتي أعلى منه بكثير خارج بيروت.

وكان اتفقوا مع مهندس وتاجر عقارات وبناياتٍ جاهزة في مطالع التسعينات على تشييد البناية الموعودة في عائشة بكار، فينال كل منهم مبلغًا ماليًا من شققها المباعة على الخريطة (أي قبل الشروع في تشييد البناية)، وشقةً فيها، قد يؤجّرها أو يبيعها، أو تعيده من منفاه للإقامة في بيروت.

لكن هذه الوعود كلها ذهبت أدراج رياح المهندس النصّاب، الذي باع شقق البناية "على العظم" (أي بناية بأعمدة وأسقف فحسب، في لغة تجار البنايات الجاهزة)، واختفى من دون أن ينجز المشروع. ورفع الورثة الكثيرون المخدوعون دعوى قضائية ضد المهندس الهارب. ولك أن تتخيّل كيف تسير الدعاوى العقارية في المحاكم اللبنانية: ظلّت البناية الموعودة "على العظم"، موقوفة لعشرات من أصحاب الحقوق فيها، وهم الورثة ومشترو شققها الكثيرة على الخريطة.

وحتى سنة 2007 كانت الدعوى القضائية العقارية لا تزال عالقة. فسئم أصحاب المشروع الفاشل ويئسوا. ومنهم من قال: "لا يصيبكم إلا ما كتب الله لكم"، فنسوا جميعًا بناية الأعمدة والسقوف العارية.. وها لبنان اليوم في مطلع العام 2022 يسير وئيدًا لتكتمل صيرورته بلدًا موقوفًا على صورة تلك البناية العجفاء المنسية المهملة. ولا جدوى بعدُ من استعادة أو تخيّل مشهد أو طيف ذاك البيت البيروتي القديم في عائشة بكار، والمشيّد بحجارة رملية، والمسقوف بالقرميد وسط حديقة طفولتي الجرداء البائرة، وصباي وشبابي في منافي بشامون الموحشة.

بيت الطريق الجديدة المتآكل
ولعائلة أمي قصة أخرى أو حصة من منافي البيارتة. كان والدها إمام مسجد الإمام علي في الطريق الجديدة. لكنني أعرفه يعملُ سائق شاحنة نقل، ثم سائق سيارة أجرة. أمي تتذكّره إمامًا في ذاك المسجد، غير بعيد من بيت عائلتها القديم على طرف شارع صبرا لجهة الطريق الجديدة. ومن طفولتي وصباي أتذكر أيامًا وإفطارات رمضانية جامعة في ذاك البيت، عندما كانت النّسوة الجارات تتبادلن صحون الطبخ في تلك الحياة الكثيفة السائلة، التي يعيش ناسها أمسياتهم الرمضانية ولياليها كما كان ينقلها التلفزيون من حواري القاهرة.

وإمامة جدي لأمي مسجدًا طبعت أولادَه، أخوالي وخالاتي الستة، بتديُّن ظاهر، لم ألحظه في عائلة جدي لوالدي. خالاتي لا أعرفهن ولا رأيتهن إلا محجّبات، وإحداهنّ منقّبة. وواحد من أخوالي تديّن تديّنًا "حبشيًّا" أو "مشاريعيًّا"، نسبة إلى جمعية المشاريع الإسلامية وإلى مؤسس تديّنها الجديد الشيخ الهرري الحبشي، الوافد إلى الطريق الجديدة والمقيم فيها في الستينات.

وأمي كانت محجبة منذ بلوغها على الأرجح. لكن مواظبتها على التعليم وحدها بين سائر إخوتها وأخواتها، ووصولها إلى الجامعة اللبنانية، هما ما حملاها على خلع حجابها على الأرجح أيضًا. وعندما كانت تعمل مذيعة في إذاعة الوطن المقاصدية كانت سافرة. لكنها تحجّبت بعدما توقفت عن عملها ذاك سنة 1998، لأن رفيق الحريري سحب رُخص الإذاعات الخاصة كلها في لبنان، وأُقفلت الإذاعة المقاصدية.

وفي إحدى بنايات بشامون، منافي البيارتة، اشترى والدايّ سنة 2000 شقة في بناية قريبة من البناية التي كانت إحدى خالاتي وزوجها قد سبق أن اشتريا شقة فيها. وحجاب أمي منعها من العثور على عمل جديد، لأن المؤسسات التي تناسب خبراتها ترفض تشغيل محجّبات، فمكثت في المنزل وتقلّص دخل أسرتنا، بعدما كان التعويض الذي تقاضته من عملها في الإذاعة المقاصدية قد سدّد الدفعة الأولى من ثمن شقة بشامون.

وفي سنة 2000 -وكان جدّاي لأمي قد توفيا- لم يبقَ مقيمًا في بيروت أيٌّ من أخوالي وخالاتي. ومعظمهم/هن اختار بشامون منفىً، هيهات أن يقيهم من وحشتهم فيه دفءُ علاقات القرابة التي لاذوا بها هناك، وفرضُهم الحجاب على بناتهم فور بلوغهن.

وحده خالي المنتمي إلى "الأحباش" وجمعيتهم وتديّنهم، ظل مقيمًا في الطريق الجديدة. بلى، إحدى خالاتي أيضًا لا تزال تقيم مع بعض أقارب زوجها في بيت أهلها القديم الذي يتآكل ويهترئ على طرف صبرا، وسط اكتظاظ وصخب مخيفين. لكنني كنت أحيانًا أعرّجُ على ذاك البيت هاربًا من منفاي الموحش في بشامون، فأمضي فيه أوقاتًا يغمرني صخبها الرحمي بدفءٍ غامض وغريب.
(يتبع)

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024