"المدن" في حي الشراونة: نهار المدينة يكنّس عنف ليلها

لوسي بارسخيان

الأربعاء 2019/06/12

"كالمعنَّف الذي يحاول أن يخفي أثار تعنيفه الجسدية والنفسية، ليقنع نفسه بأنها لن تتكرر ثانية، وأن هناك من سيضع حداً لأذيته". هكذا هي أحوال بعلبك بعد كل اشتباك تشهده بين الجيش ومطلوبين للعدالة. وهكذا كان حالها إثر "فورة" الغضب التي اجتاحت آل زعيتر في حي الشراونة، على خلفية مقتل اثنين من شبابها باشتباكات مع الجيش، في معقل العشيرة الأساسي بمنطقة الكنيسة الجردية في محافظة بعلبك.

مرارة البعلبكيين
وكأنه سيناريو مشابه لما سبقه. لا تضيف إليه "خبرة السنوات" ولو تفصيلاً جديداً يجنب الناس من ارتدادات ردود الفعل المتوقعة. إذ لم يخيب "رَبع" الشابين اللذين قتلا في عمليات تبادل النيران مع الجيش بعد ظهر الٌإثنين، ظناً عند أهالي بعلبك، بل هم ترقبوا رد الفعل في حي الشراونة، التي تتوطنها عشيرتي زعيتر وجعفر، بعيدا عن مسقط رأسيهما، فور شيوع الخبر.

إلا أن ما بقي مخيباً لآمال البعلبكيين، هو أن لا تلجأ القيادة العسكرية لتدابير احترازية، أمنية وسياسية أهلية، تمنع تطور ردود الفعل إلى إطلاق عشوائي للنيران، وإلى استهدافات للمراكز العسكرية، يدفع ثمنها في كل مرة أهالي بعلبك من أمنهم واقتصادهم، ومن الموسم السياحي الذي ينتظره الكثيرون سنوياً، لتأمين انتعاش منازلهم. فبالنسبة لهم، كان على الجيش أن يتوقع رد الفعل الذي وقع ليل الإثنين- الثلاثاء على مقتل الشابين، ويتصرف بناء لذلك.

في الواقع الميداني، إستيقظ أهالي بعلبك صبيحة الثلثاء وكأن شيئا لم يكن. عمال يتجمعون في الساحات للانتقال إلى الورش، تلاميذ المدارس بعضهم ينتظر الحافلات على الطريق، وبعضهم يقصد مدرسته سيراً على الاقدام، محلات الخضار والصيدليات فتحت قبل غيرها لتأمين الحاجات الأساسية للبعلبكيين.

يقول بائع سمانة عند مدخل حي الشراونة من وسط المدينة، "نحن اعتدنا مثل هذه الحوادث، فصرنا ندرك بأن هذه الاشتباكات مهما ارتفعت وتيرتها، محكومة بمهلة زمنية لا بد أن تنتهي قبل طلوع الفجر، وبقرار أعلى من إرادة الشباب المتحمسين، قادر على إسكات الأسلحة وفقاً للحسابات، وإنما بعد أن تسمم كل الأجواء، على نحو تتجمد الحركة العامة، وخصوصاً السياحية لأيام، قبل أن تستعيد والمدينة عافيتها مجدداً".

الشائعات والحواجز
لا يعرف الكثيرون في مدينة بعلبك حقيقة ما جرى ليلاً، وإنما يكررون ما قرأوه أو شاهدوه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتصبح حديثاً شائعاً، ولكنه ليس بالضرورة دقيقاً. على بعد كيلومترات من فندق "بالميرا" التاريخي في بعلبك، يشير أحد جيرانه إلى تعرضه لقذائف ليلاً. ولكن عندما قصدنا الفندق، أخبرنا القيمون عليه أنهم سمعوا عن ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي، واضطروا لاستيضاح الأمر من عناصر الجيش المرابضين قرب ملالة عسكرية زرعت في المكان منذ مدة طويلة، ليمضوا الليل وهم ينفون الشائعة لكل من اتصل بهم مطمئناً. بدا الجيش في كل مراكزه بالمقابل بحالة استرخاء. وكأن "كلمة سر" وصلته، تؤكد إنتهاء "رد الفعل".

عند أحد المستديرات الرئيسية المؤدية إلى حي الشراونة، يكاد المشهد يكون سريالياً لعناصر عسكريين أمام ملالة للجيش، وهم ملهوون بهواتفهم الخليوية، حيث يجلس في مقابلهم تماماً بائع عصير متجول، نزل إلى عمله الباكر، وكأن شيئا لم يكن.

الحال تنطبق على عناصر جميع الحواجز. الذين بدوا في حالة إسترخاء، باستثناء واحد عند مدخل مركز عسكري في وسط الحي، أخلي من عناصره. عند هذا الحاجز فقط يمكن التأكد من صحة ما جرى تداوله ليلا عن حالة توتر، وحرق للأعصاب وليس فقط للإطارات. ليس فقط بسبب أثار حريق الإطارات الذي حاصر المركز من جهتين، وإنما بسبب ما تركته فورة الغضب من أثار حرق وتحطيم في "كشك" يبيع القهوة والعصائر، طالت نيرانه سيارات قريبة، بعدما تعرضت الأخيرة أيضا لاعتداءات على نوافذها.

ليست المرة الأولى الذي يكون فيه محيط هذا الحاجز بالتحديد في مرمى رد الفعل. وفي كل مرة يجري إخلاءه لأيام، إلى أن تهدأ النفوس مجدداً، فيعود إليه العناصر، بانتظار الحادثة الأمنية التالية.

شعور المظلومية!
إذا المعركة كانت أشد إيذاءً في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي منها على الأرض. ذلك أن تداعياتها البعيدة الأمد تطال المرفق السياحي الحيوي في المدينة، وتطال أهل المدينة، الذين إن لم تؤذهم الرصاصات الطائشة، عاشوا هاجس القلق الدائم و"القرف" من واقع ميؤوس، لا يلمسون حتى الآن جدية أمنية بالتعاطي معه، تبدأ أقله باستئصال الأوكار الأمنية الشاذة وإسقاط الحمايات التي تتمتع بها.

في المقابل، ثمة شعور عارم بالمظلومية في هذا الحي، إذ يعتبر بعض سكانه بأن "الإتجار بالمخدرات يبقى حلالاً طالما لا مداخيل بديلة لشباب الحي". وعليه، تتحدث سيدة من آل زعيتر عن الأحداث التي شهدها الحي، وكأنها أمر طبيعي، مغدقة صفات حسنة على أحد الشابين اللذين قضيا في اشتباكات الكنيسة، والذي تقول أنه كان يستدين ثمن الحفاضات والطعام ليعيل عائلته.

بالنسبة للكثيرين في هذا الحي، هم ضحية أولاً. ضحية ردود الفعل التي باتوا يترقبونها عند أي حادث أمني يقع في أي بقعة من البقاع. ضحية الجهل والفقر الذي يدفع بشبابهم إلى "الرذيلة"، وضحية الدولة غير القادرة على فرض سلطتها على فئة مدعومة من عصابات السرقة والقتل والإتجار بالمخدرات، أو على حماتها، ضحية البيئة التي ترغب باحتضان الجيش لأن معظم عناصره هم من أبنائها، ولكنها غير قادرة على إعلان ذلك أمام أهل "يعتبرون أولادهم ضحايا الاشتباكات مع الجيش" ويتهمون "السلطة الشرعية" بإعدامهم حتى من دون أن يعطوا الحق بالدفاع عن أنفسهم.

هدوء الثلاثاء
أمام هذا الواقع، تصبح مدينة بعلبك كلها ضحية، فالتوتر الأمني المتكرر، إذا لم ينسف الجهود المبذولة لتلميع صورة المدينة أمام العالم الذي يحذر من زيارتها، فأقله يسيء إلى هذه الجهود، ويفقدها المصداقية الأمنية التي تحتاجها لاستقطاب الزوار إليها.

أما بالنسبة لـ"رد الفعل" العنيف على ما جرى في الكنيسة الإثنين فقد هدأ الثلاثاء. ولكن كما كان متوقعاً أيضاً، من دون إجابات كافية حول حقيقة ما جرى سواء في الكنيسة أو في الشراونة. فعند الثامنة والربع من صباح الثلاثاء شوهد ذوو فقيدي آل زعيتر وهم يصطحبون جثتيهما في سيارتي إسعاف تابعتين لبلدية الكنيسة، بعد أن كان موقف الليلة السابقة رفض تسلم الجثتين، وهو ما يترجم بالمفهوم العشائري "طلباً للثأر".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024