ملف العمال الأجانب في لبنان (2): شركات التنظيف الوهمية

وليد حسين

الجمعة 2019/08/16

على عكس العاملات الأجنبيات في الخدمة المنزلية اللواتي تربطهنّ عقود عمل مجحفة، لا تحدّد طبيعة علاقتهن التعاقدية في العمل، ما من عقود عمل تنظّم علاقة العمّال الأجانب مع المؤسسات. وذلك بسبب الوساطة الاحتيالية التي تتبعها شركات تدعي أنها تعمل في أعمال التنظيفات، فيما يقتصر عملها على استقدام العمال الأجانب إلى لبنان.

الإدارة العلمية!
اتصلنا بواحدة من شركات التنظيفات التي "تسلّف" المؤسّسات اللبنانية عمّالاً أجانب ولبنانيين، مصرّحين أننا نريد افتتاح متجر في بيروت ونرغب في تأمين عمال أجانب لخدمة الزبائن.

بدأ مدير الشركة حديثه قائلاً إنّ "لديها 265 موظفاً مسجّلين قانونياً. وكلفة العامل القانوني على شركته 585 دولاراً، تضم راتبه الشهري وإقامته وإجازة العمل والتأمين الصحي وشهادة صحيّة، يضاف إليها ثمن هندام العمل وكلفة الإدارة، لتبلغ الكلفة القانونية على المؤسسة الراغبة في تشغيله 675 دولاراً". ولدى اعتراضنا على هذا السعر المرتفع، حاول إقناعنا بخيارات أخرى قانونية تقدمها شركته، تغنينا عن تشغيل عمّال غير قانونيين، وأقل كلفة.

ذكرنا للمدير أنّ شركته لا تدفع رواتب للعمال في "سبينس"، لأن الإكراميات التي يتلقونها مرتفعة. لم ينف الأمر، وأكّد أنه يدفع رواتب للعمّال الأجانب وحسب، من دون اللبنانيين الذين يحتفظون بإكراميات الزبائن. وعندما طلبنا منه تأمين عمال لبنانيين لتكون الكلفة أقل على مؤسّستنا، تأسّف قائلاً: "بات صعباً تأمين عمّال لبنانيين في بيروت".

ثم اقترح علينا إجراء دراسة لتوفير المصاريف، وعرض مزايا "إدارة العمل والعمّال إدارة علمية" تقلل عدد العمال. فإذا كان المتجر يحتاج إلى 10عمّال، للتنظيف وخدمة الزبائن، فإنّ "الإدارة العلمية" أوفر بكثير، لأنها قائمة على حساب حركة الإكراميات التي يمكنك حسمها من حساب راتب العامل الشهري. وعندما أبلغناه أن العامل في مؤسّستنا يستطيع تحصيل مئة ألف ليرة يومياً إكراميات، على الأقل، قاطعنا المدير فوراً: "إذاً تصل إلى آخر الشهر من دون أي كلفة إن شاء الله"، وأضاف: "طريقتي في العمل هي التالية: أسجّل العقد الذي نتّفق عليه في وزارة المالية، وأدفع على الإكراميات ضريبة القيمة المضافة". استوضحته، فسخر من قلّة درايتي قائلاً: "أجمعُ الإكراميات كلها، وأحاسب العامل على أساسها، وهكذا تكون مؤسّستك مستفيدة وأنا أيضاً". وضرب مثلاً عن إدارة العمل في مؤسّسة "قاروط": "أحسب الإكراميات التي يحصّلها العامل فيها  بـ300 دولار شهرياً، وأتقاضى من "قاروط" المبالغ المتبقية التي أتكلفها على العامل مع ربح بحدود المئة دولار عن كل عامل".

شركات للنصب
العامل ليس لديه أي صفة أثناء عمله في المؤسسة التي تشغّله، لأنها تتّفق مع شركة تنتحل صفة العمل في التنظيفات، وتعمل في سمسرة استقدام العمال الأجانب إلى لبنان. ويسهل استغلال العامل بعدما تسلمه شركة التنظيفات الوهمية إلى مؤسّسة لا تربطه بها أي علاقة تعاقدية. فعدا عن كون هذه العملية إتجار بهؤلاء الأشخاص، حسب رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال كاسترو عبد الله الذي تساءل: في حال تعرّض العامل لحادث في العمل، من المسؤول عنه؟ المؤسسة التي يعمل فيها أم شركة التنظيفات؟ ويجيب: إدارياً يجب أن يتحمل رب العمل، أي المؤسسة المشغّله، المسؤولية. لكن المؤسسات تتهرّب من مسؤوليتها: لا عقود ولا رسوم، ولا إجازة عمل، ولا إقامة، ولا ضمان اجتماعي. فلجوؤها إلى شركات التنظيفات يعفيها من هذا كله. وهذه الأخيرة غالباً ما تكون محدودة المسؤولية، برأسمال خمسة ملايين ليرة فقط. وفي حال إفلاسها، لا أحد يسألها عن مصير العمال. ويلفت عبدالله إلى أنّ هذه الممارسات هي عملية "نصب" مزدوجة: فمن ناحية تتهرّب المؤسسات المشغّلة من مسؤوليتها، ومن الضرائب المتوجبة، فيما تتهرب شركات التنظيفات من دفع رسوم الضمان الاجتماعي الذي عليه التحقق من دفع هذه الشركات الرسوم، وعلى وزارة العمل تحمّل مسؤوليتها لدى منحها إجازات عمل لتلك الشركات التي تقدم خدمة بالوكالة.

مرخصة قانونياً
مسؤول في وزارة العمل يبرر إجراءات شركات التنظيفات، بأن بعض المؤسسات تحتاج إلى موظفين موسميّين. وكي لا يتكلف مبالغ مالية جراء استقدام عمال من الخارج، تلجأ إلى شركات التنظيفات. وشدّد على أن الوزارة تدقّق حالياً في ملفات استقدام العمال إلى لبنان، قبل منحهم إجازات عمل، وتتأكّد من حيازتهم تأميناً صحّياً وتسجيلهم في الضمان الاجتماعي (باستثناء العمّال الزراعيين، والعاملين في الخدمة المنزلية). لكنه لفت إلى أنّ الممارسات على الأرض مختلفة. فـ"المشاكل كثيرة والملف كبير ومعقّد، وبدأنا نعمل على حلول، آخذين في الاعتبار الالتزام بالقوانين الحالية". القانون يحتاج إلى تطوير - أضاف - لافتاً إلى محاولات العمل على "الحد من التجاوزات، وخصوصاً أنّ القانون رخّص لشركات التنظيفات، التي لا تستطيع الوزارة رفض طلباتها، إلا إذا تغيّر القانون".  

بعد مكالمتنا الهاتفية المطوّلة مع مدير شركة التنظيفات، كشفنا له هويتنا قائلين إنه يحرم العمال من الرواتب التي يدفعها لهم من الإكراميات التي هي حق لهم، فقال: "هذه إدارة للعمل لتقديم خدمات متبعة في دول العالم كلها. وجميع عقود شركته صادقت عليها وزارتي المالية والعمل والأمن العام. وعقود العمل التي نبرمها مع العامل ننفذها. وعندما يشعر العامل بأي ظلم يستطيع التقدّم بشكوى. وهذا لم يحصل إلى اليوم. نحن ننظّم حياتهم، ولم ترفع أي شكوى على شركتي".

... للإستعباد
موهانا إسحق، المحامية بالاستئناف ومسؤولة ملف الإتجار بالبشر في منظمة "كفى"، تعتبر أن الانتهاكات التي يتعرّض لها العمّال الأجانب واللبنانيون أيضاً، ناجمة عن ممارسات احتيالية وغير قانونية، ومردّها الأساسي نقص في القانون اللبناني لحماية العمّال الأجانب.

أما عبد الله - وبعد تأكيده على أن ما حصل من تلاعب في "سبينس"، بنقل العمال منها إلى شركة تنظيفات بعد الشكوى التي قدمها الاتحاد الوطني للعمال إلى الضمان الاجتماعي - فقال: "ما تقوم به هذه الشركة وغيرها، إهانة للكرامة الإنسانية. وبعيداً من خرق الشركة القوانين بعدم دفعها أجورهم الشهرية، فإنها تحملهم على استعطاف الزبائن لتلقي الإكراميات". وأضاف أن العامل الذي يقف إلى جانب صناديق المحاسبة هو عملياً يعتبر متعاقداً مع المؤسسة التي تشغّله، حتى لو لم يكن لديه عقد عمل معها. وهو لم يختر الوقوف إلى جانب صندوق المحاسبة كي يتكرّم عليه الزبائن الذين لا يدفعون إكرامية غالباً، معتقدين أنه يتقاضى مرتباً شهريّاً. فالإكراميات هي من حق العامل لقاء عمله، ولا يجوز سلبه إياها لتدفع له باعتبارها راتبه. والأسوأ أن الشركات تحصل أرباحاً من إكراميات العمال. لذا فإن ما تقوم به ليس سوى سلب لقوة عمل العمّال. وهذه سرقة موصوفة وتشغيل للبشر بالمجان. وهذا نوع من الاستغلال يرقى إلى الاستعباد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024