صُوْر في دوامة الكساد.. مدينة يداهمها الإفلاس والقحط

حسين سعد

السبت 2019/12/14

يضرب تراجع النشاط الاقتصادي والتجاري مدينة صور وريفها، ويشمل الإقفال عشرات المؤسسات، فيلجأ الناس إلى بدائل زراعية وإنتاج حيواني.

زينب تبتاع بقرة
وقفت زينب، المرأة الستينية، في طابور طويل أمام مصرف في مدينة صور، لسحب مبلغ ثلاثة ملايين ليرة لبنانية، ادخرتها على مدى أعوام من بيع إنتاج العائلة الزراعي الموسمي. الفكرة السريعة التي خطرت ببال زينب، للإفادة من هذا المبلغ الذي تآكل بفعل انهيار الليرة والكارثة الاقتصادية، هو شراء بقرة حلوب تعدها أكثر استدامة من هذا المبلغ، تبيع حليبها بما يساعدها في إعالة العائلة، إلى جانب المردود الزراعي. فسطل اللبن الكبير ارتفع سعره في الأزمة إلى 11 ألف ليرة، بعدما كان يباع بـ 8 آلاف ليرة.

زينب امرأة من ألوف الأشخاص الذين يبحثون عما يقيهم من الضيق والعوز البادئين، والمتزايدين يوماً بعد يوم والمحيقين بسبل العيش في حدها الأدنى.

ورشة تصليح و"جزادين"
أحمد شاهين رجل تجاوز السبعين. وكان محله - في المدينة الصناعية بمحلة البص شرق صور، لتصليح لتصليح الدراجات النارية ومولدات الكهربائية المستخدمة في الزراعة - مقصداً لأبناء المنطقة منذ ستينات القرن الماضي. وهو ظل إلى شهور خلت يقدم خدماته الفريدة من نوعها، ومكّن صاحبه من إعالة أسرة كبرت وشملت أحفاده الكثيرين .

منذ أشهر، وتحديداً بعيد انتفاضة 17 تشرين الأول الماضي (2019)، توقفت أعمال المعلم  أحمد شاهين في محله، فلم يحصّل في غالبية الأيام أكثر من بضع عشرات الألوف من الليرات، لا تغطي كلفة مادة البنزين التي يحتاجها المحل يومياً.

مواطن آخر في قضاء صور نشر على صفحة أحد المواقع الإلكترونية إعلاناً عن "جزادين" (حقائب يد نسائية) يريد التخلص منها بأقل من سعر الكلفة.

وذيل الإعلان بعبارة: "بسبب الأوضاع الاقتصادية، قررنا نسكر ونفل، وعلى رأي المثل: العواض ولا التلف".

توقف أموال إفريقيا
ليست هذه الحالات فردية. فوضع كثيرين في منطقة صور بات أشبه بهستيريا، وتحديداً منذ احتجاز أموال المودعين في المصارف وارتفاع سعر الدولار على حساب الليرة، تزامناً مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية أكثر من 30 في المئة، وانحسار تحويلات المغتربين من أبناء المنطقة إلى حدودها الدنيا. وهذا ما يفاقم الاختناق الاقتصادي والمعيشي، لا سيما أن عشرات ألوف العائلات تعتمد على تحويلات أبنائها المهاجرين، في إفريقيا على وجه التحديد.



كساد تجاري وعقاري
"الدلال" الذي كان يعيشه أصحاب العقارات المبنية - لا سيما المحلات التجارية، التي وصل تأجير بعضها في حي الرمل في صور إلى 7 آلاف دولار شهرياً في عز الفورة العقارية - بات من الماضي الجميل، سواء للمؤجرين أو المستأجرين الذين تنعموا بأيام مربحة تجارياً.

الشارع المتفرع من نزلة دوار جنبلاط إلى كورنيش صور البحري الجنوبي، وصولا إلى ساحة أبو ديب التي التصق اسمها بمؤسس مطعم الفلافل الشهير في المنطقة المرحوم أبو ديب بدوي - تستوقفك على جانبي الشارع الذي لا يتعدى طوله 300 متر، واجهات ما يقارب 20 محلاً تجارياً أُقفلت واغبرّت من الهجران، وأُلصقت عليها عبارة: للإيجار إلى جانب أرقام هواتف للتواصل مع ملاكها لتأجيرها مجدداً بأسعار تقل على ثلث قيمتها السابقة.

المستأجرون في هذه المنطقة (حي الرمل) هجروا محالهم قسراً، بعدما تراكمت عليهم الديون والاستحقاقات على اختلافها، في ظل تراجع مبيعاتها، وخصوصاً من الألبسة والأحذية والأدوات الكهربائية. وهذا في مقابل ارتفاع قيمة بدلات إيجارها وكلفة فواتير الكهرباء وأجور الموظفين. ومن صمد حتى الآن هم أصحاب المحلات، من ملاكها عقارياً، والذين تقل عليهم الضغوط، فيما هم يستعدون للأسوأ، بشهادة أبو علي، صاحب أقدم محل لبيع القماش في آخر الشارع المذكور: "لم يمر علينا مثل هذه الأيام. كانت مبيعاتنا بألوف الدولارات شهرياً، لكننا بتنا نفتح المحال ونتابع الأخبار على شاشات التلفزيون. ولا نستقبل سوى قلة من الزبائن الذين لديهم أولويات معيشية، وخصوصاً الأكل والدواء والتعليم".

إقفال وكساد
ويقدر ديب بدوي رئيس جمعية تجار صور عدد المحال التي أقفلت نهائياً وأصبح مستأجروها في ضياع كبير، بحوالى 80 محلاً ومؤسسة في محلة الرمل والسوق التجاري القديم وشارع المصارف، امتداداً إلى مداخل المدينة الشمالي والشرقي والجنوبي، التي انشئت فيها خلال السنوات القليلة الماضية تجمعات تجارية كبيرة.

ويفيد أن بعض المحال انخفضت قيمة تأجيرها من 7 آلاف دولار إلى 3 ملايين ليرة. ولكن العبرة في تجاوز الانهيار السريع الذي يتطلب معالجات فورية لانقاذ ما تبقى من عصب المؤسسات، التي صرفت غالبية موظفيها، وأقدمت أخرى على دفع نصف رواتبهم وقلصت دوامات عملهم، حفاظاً على استمراريتها، في ظل ارتفاع أسعار المواد الأولية أكثر من 30 في المئة.

ينزل أبو أحمد مهنا يومياً من قريته، جبال البطم، إلى صور (نحو 20 كلم)، بسبب إدمانه على فتح محله، رغم أنه في غالبية الأيام لا يبيع أي قطعة. وصل إحباطه  وسواه من أبناء المنطقة إلى درجات متقدمة. وأبو أحمد اعتاد في سنوات مضت على البحبوحة ونعمة الإنتاج .

على مسافة 150 متراً من محل أبو أحمد القريب من المحكمة الشرعية الجعفرية - وعلى مدخل شارع المصارف الذي كانت تقام فيه سوق الخضر بالجملة قبل نقله إلى طرف المدينة - يبادرك وجه نبيل الملاح، أبو جميل، الذي تعرفه صور ومنطقتها واحداً من وجوه القومية العربية ومن أوائل أصحاب محال الحلويات في المدينة. لكن أبو جميل الذي تقدم في السن ينهمك بالتحضير لترك محله المستأجر إلى محل صغير يملكه، بعدما أنهكته قيمة بدل الإيجار وتوابعها وتراجعت المبيعات.



شجرة ميلاد ولا سياحة
على الرغم من هذا كله تتحضر بلدية صور لعيدي الميلاد ورأس السنة، ليصار إلى رفع شجرة الميلاد في ساحة الإمام الصدر، بديلاً من النقطة التي كانت ترفع فيها في السنوات الماضية على الكورنيش الشمالي بجوار دوار العلم.

وزحمة السير في المدينة التي تستقبل في كل نهاية عام فنانين معروفين في فنادقها ومطاعمها المميزة المطلة على بحر صور، لا تشي إطلاقاً - حتى الآن - بأجواء الفرح بل بالشح والقلق على المصير.

ولا يخفي حسين ترحيني مدير أوتيل بلاتينيوم في صور، صعوبة الأوضاع التي تصل إلى حدود غير مسبوقة في تاريخ النشاط السياحي في صور.

وحتى اليوم نسبة الإشغال في الفندق شبه معدومة. ورغم ذلك يقول ترحيني: نستعد لإقامة سهرة ميلادية يحييها فنانون. ولكننا قلقون على نجاحها، نتيجة الأوضاع المعيشية القاسية التي تطال معظم الفئات الاجتماعية.

وعن ديمومة عمل الموظفين، يشير إلى أنه لم يصرف أحداً من العمال. ومن التدابير التي يتبعها إعطاء إجازات قصيرة من دون راتب.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024