أكاذيب وأضاليل حول غادة عون و"مكتّف" وأموال المودعين

علي نور الدين

الإثنين 2021/04/26

لم يعد هناك شك أن ثمة شبكة مصالح عميقة متحكمة بالقرار السياسي في البلاد، حالت طوال الفترة الماضية دون كشف أسرار اللعبة المصرفيّة، التي خطفت أموال المودعين بشكل متعمد ومدروس. ولعلّ عرقلة التدقيق الجنائي والكابيتال كونترول على نحو متكرّر، مجرّد نموذج على سطوة هذه الشبكة وذراعها الممتدة على امتداد جميع الكتل النيابيّة من دون استثناء. لكن من المؤكّد أيضاً أن تضخيم معركة غادة عون مع شركة مكتّف، وتصويرها كمعركة "كشف المستور" التي ستفضح طريقة تهريب سيولة النظام المصرفي.. لا، بل وربطها بمسألة تبديد أموال المودعين لمصلحة بعض النافذين، ليست سوى عناوين شعبويّة فارغة من شأنها التعمية عن المكان الفعلي الذي ينبغي البحث فيه.

مع العلم أن هذه الحقيقة لا تنفي تورّط سوسيتيه جنرال في عمليات شراء الدولار من السوق السوداء وشحنه للخارج، وهي عمليات مؤذية للعملة المحليّة تقوم بها جميع فروع المصارف اللبنانيّة حاليّاً بشكل روتيني كل يوم، من دون تدخّل من قبل القضاء أو مصرف لبنان. لكنّ هذه العمليّات لا تتصل بشكل مباشر بأزمة الودائع. ومن غير المنطقي الخلط بين شحن النقد الورقي للخارج وتهريب دولارات المصارف لمصلحة كبار النافذين، على النحو الذي يجري اليوم إعلاميّاً. كما من غير المنطقي تعظيم التحقيقات حول شحن الدولار النقدي، للإيحاء بأنها تحدي حقيقي للوبي المصرفيين وكشف للحقائق الكبيرة المخفيّة.

أما السؤال الأهم فيبقى: لماذا تلاحق غادة عون مجموعة من عمليات شحن النقد الورقي، التي يصعب أن تكشف الكثير في ملف شراء الدولار من السوق السوداء، في حين أنها كانت قادرة على فتح هذا الملف من خلال العروض التي تقدمها جميع المصارف لعملائها لشراء الدولار النقدي؟

كيف هرّبت المصارف سيولتها؟
حين يتم الحديث عن تهريب سيولة النظام المصرفي، لمصلحة قلة من المودعين النافذين خلال فترة إقفال المصارف، أو خلال فترة امتناعها عن توفير السحوبات النقديّة لباقي المودعين، فالمقصود هنا عمليات التحويل التي جرت من النظام المصرفي إلى خارجه. عمليات التحويل هذه حصلت من حسابات المصارف لدى المصارف المراسلة، لمصلحة حسابات النافذين لدى المصارف الأجنبيّة، حين تُظهر الأرقام أن أرصدة المصارف اللبنانيّة في الخارج انخفضت منذ 2019 بنحو 7 مليار دولار، من دون أن يتضح مآل هذه الأموال. كما حصلت عمليات التحويل هذه أيضاً من احتياطات مصرف لبنان، التي يدين بها للمصارف أساساً، فتُظهر الأرقام أن هناك 7 مليارات دولار خرجت من هذه الاحتياطات للمصارف الأجنبيّة، من دون أن تكون وجهتها دعم استيراد السلع الأساسيّة. ما يشير إلى ارتباطها بعمليات تهريب لسيولة النظام المالي.

كل هذه العمليات لا تتصل عمليّاً بمسألة شحن الدولار الورقي أو النقدي إلى الخارج، لا من قريب ولا من بعيد. لا بل وعلى العكس تماماً، فلكي ينطبق على هذه العمليات مفهوم "تهريب السيولة" بشكل استنسابي لمصلحة بعض المودعين، فمن الطبيعي أن لا يقابل هذه التحويلات أي إيداعات نقديّة طازجة من قبل المودع في لبنان، وأن لا تشحن المصارف أموال المودع للخارج من أجل إجراء هذه التحويلات، بل تتم التحويلات من أموال المصارف نفسها.

ما حقيقة الـ9 مليار دولار؟
لكل هذه الأسباب، لا علاقة بين التحويلات غير المشروعة، وعمليات شحن الدولار الورقي. المصادر المقرّبة من القاضية غادة عون سرّبت لوسائل الإعلام أن شركة مكتّف شحنت بين عامي 2019 و2021 ما يقارب الـ9 مليارات دولار من النقد الورقي، مستندةً إلى أرقام شركة سكاب التي تقوم بخدمة نقل الأموال محليّاً لمصلحة شركة مكتّف. علماً أن المصادر نفسها أكدت أن شركة مكتف استمرت مؤخراً بشحن الأموال إلى الخارج. إذ حولت خلال الأسابيع الماضية بضعة ملايين من الدولارات.

لكنّ تسويق هذه الأرقام الكبيرة كاكتشافات مدويّة انطوى على الكثير من الخداع. فجميع عمليات الاستيراد التي لا تخضع للدعم المباشر من مصرف لبنان، تجري اليوم من خلال إيداع المبالغ نقداً بالدولار لدى المصارف، مقابل إجراء التحويلات إلى المصارف الأجنبيّة، فيما تقوم المصارف لاحقاً بشحن الدولار النقدي إلى حساباتها في الخارج. وفي هذه العمليّة، تُعد مسألة شحن الدولارات بالتوازي مع التحويلات مسألة متوقعة وطبيعيّة جداً، لا بل وعمليّة يستحيل دونها شراء أي سلع من الخارج. مع الإشارة إلى أن حجم الواردات بلغ لغاية شهر تشرين الثاني من العام الماضي نحو 10 مليار دولار.

وعلى أي حال، بالإضافة إلى عمليات الاستيراد العاديّة، يمكن القول أن إجراء التحويلات مقابل إيداع الدولار الطازج مسألة متاحة ومشروعة حاليّاً لجميع المودعين من غير المستوردين، سواء لسداد القروض والضرائب وشراء العقارات في الخارج، أو لإتمام أي عمليات استثماريّة. وهي جميعها عمليات تحتّم شحن الدولار النقدي للمصارف المراسلة بعد تلقيه من المودع. وكل هذه العمليات، لا تنطوي على أي شبهات أو إشكاليات قانونيّة، خصوصاً أنها تتم بسيولة طازجة يملكها المودع نقداً ولا تستنزف أي من موجودات أو سيولة النظام المصرفي المتبقية، فيما يُعد منع هذه التحويلات حصار مالي لا يقوى المقيمون في لبنان على تحمّله.

شراء الدولار من السوق السوداء
باختصار، لا يمثّل شحن الدولار النقدي للخارج أي شبهة بالنسبة لعملاء المصارف، الذين يقومون بالتحويلات مقابل إيداعات نقديّة، كما جرى تسويق الأمر إعلاميّاً. الجانب الإشكالي الوحيد في عمليات الشحن هذه، يتعلّق بالدولارات التي تقوم المصارف بجمعها من السوق السوداء، لإيداعها في حساباتها في المصارف المراسلة. وهذه بالتحديد التهمة التي جرى توجيهها لمصرف سوسيتيه جنرال. مع العلم أن هذه التهمة لا تتصل بتبديد سيولة المصارف أو تهريب أموال المودعين. بل على العكس، تتصل بإعادة تكوين سيولة النظام المصرفي على حساب السيولة المتوفرة بالعملة الصعبة في السوق السوداء، وعلى حساب قيمة الليرة اللبنانيّة. وهنا لا بد أن نشير أن هذه العمليات على خطورتها بالنسبة إلى الاقتصاد الوطني، غير خاضعة حاليّاً لأي قيود أو تدابير من قبل المصرف المركزي، ما يبقي هذه العمليات في المساحة الرماديّة من الناحية القانونيّة.

وفي حين يتم التصويب على ملف التحقيق مع مصرف سوسيتيه جنرال كفضيحة تتعلّق بمجموعة محدودة من العمليات، يمكن القول أن شراء الدولارات من السوق من قبل المصارف يتم حاليّاً بمئات العمليات كل يوم، وفي كل فرع مصرفي من دون استثناء. وهذا النوع من العمليات لا يمكن تقصّيه من خلال سجلات شركة مكتف، التي يختلط فيها دولارات المستوردين والعملاء مع الدولارات التي جمعتها المصارف نفسها من السوق، بل تكفي مراجعة بسيطة للعروض التي تقدمها علناً جميع المصارف لعملائها، والمتعلقة بشراء الدولارات النقدية منهم مقابل شيكات مصرفيّة. وهنا يمكن التساؤل عن سر الاستعراض في تقصّي أرقام الدولارات النقديّة المشحونة لمصلحة مصرف واحد، بشكل عبثي وغير مفيد، من أجل البحث عن عمليات تمارسها جميع المصارف الآن بشكل علني ومفضوح!

طبخة بحص عونيّة
تسويق المعركة إعلاميّاً كمعركة بحث عن الدولارات المهربة، وخلط شحن الدولارات النقديّة بتهريب سيولة المصارف، وخوض معركة البحث عن دولارات السوسيتيه جنرال في سجلات شركة مكتف بدل التوجه لعروض المصارف التي جمعت الدولارات من السوق، كلها علامات تشير إلى أننا أمام طبخة بحص لن تؤدي إلى أي نتيجة فعليّة. مع الإشارة إلى أن القاضية عون كانت قادرة على خوض معركة أفضل بكثير مع المصارف، لو أنها وجهت سهامها بشكل أدق إلى حيث يجب.

لماذا لم تخض غادة عون هذه المعركة كما يجب؟ تتعدد الإجابات: بين من يعتبر أنها لم تملك أساساً الإلمام التقني لتوجيه التحقيق والاتهام كما يجب، وبين من يعتبر أن المطلوب ليس سوى فتح ملف هش يسمح بالقيام بعراضة شعبويّة، أو تحقيق مكاسب سياسيّة معيّنة، قبل إقفاله وفق تسوية ما، تماماً كما جرى في العديد من الملفات السابقة. بل وثمة من يعتبر أن تصغير بيكار التحقيق ليلاحق مجموعة معاملات مصرفيّة محدودة، مرتبطة بشحن الدولار، بدل التوجّه نحو عمليات جمع الدولار التي تقوم بها جميع المصارف، يهدف أساساً لعدم التورط بملف جدي واسع، مقابل إبقاء البحث محصوراً بنطاق يمكن تطويقه واستيعابه لاحقاً عند حصول التسوية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024