بعد استقالة الحريري: السياسات المالية الكارثية ومصير سيدر

خضر حسان

الخميس 2019/10/31
قَبِلَ رئيس الجمهورية ميشال عون استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري، لتدخل الحكومة المستقيلة في مرحلة تصريف الأعمال. والاستقالة هي أحد المطالب الأساسية للانتفاضة اللبنانية التي انطلقت في 17 تشرين الأول، لكنه ليس الوحيد. ما يعني أن التظاهرات ستستمر، ليستمر معها ترقّب الوضعين الاقتصادي والمالي. فالاقتصاد لا يسجّل أي نمو. ومالية الدولة تعاني بصمت، وسط ارتفاع سعر صرف الليرة مقابل الدولار. على أن أول التساؤلات يوجّه نحو المصارف وأموال مؤتمر سيدر.

تحديد المسؤوليات
توافقاً مع دلالات المرحلة التي يمر بها لبنان، لا تعطي المؤشرات الاقتصادية والمالية العَرَضية صورة دقيقة عن الواقع. فمثل تلك المؤشرات هي حالة طارئة وغير بنيوية ولا متجذرة، على عكس السياسات النقدية والمالية التي انتهجتها الطبقة السياسية منذ نحو 26 عاماً، أي على وجه التحديد منذ العام 1993.

إعطاء الأولوية للسياسات، يأتي من كونها عملاً منظّماً ومبرمجاً ومقصوداً. ومن هنا، يعتبر الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي أن السلطة النقدية المتمثلة بالنظام المصرفي ككل، وعلى رأسه المصرف المركزي، "ساهمت بالتصرّف بنحو 100 مليار دولار من الودائع المصرفية. فالمصرف المركزي أغرى أصحاب المصارف بالفوائد المرتفعة، وأصحاب المصارف تصرّفوا بأموال الناس لتحقيق الأرباح. علماً أن هذه الخطوة برمّتها مخالفة للدستور ولقانون النقد والتسليف".

وعوض استثمار الأموال بصورة صحيحة، "دَعَم المركزي قروض القطاع الخاص، واستثمر جزءاً من الأموال لدعم القروض السكنية وفق المحسوبيات، ما أتاح لسياسيين وكبار التجار الاستفادة من القروض المدعومة، فيما الناس ترزح تحت عبء الفوائد على القروض".

بالتوازي، يرى يشوعي أن المركزي "مدَّ الطبقة السياسية بالمال مع علمه أن المال سيتبخّر. كما فرَّط المركزي باحتياطاته لدعم سعر وهمي لليرة، في حين أن السعر المدعوم لا علاقة له بقوى السوق وبالوضع المالي والسعر الحقيقي لليرة".
في ظل سياسات المركزي، ساهمت المصارف التجارية بتضخيم الأزمة "فهي استفادت من أرباح توازي نحو 5 مليارات دولار عبر الهندسات المالية وعبر تعريض أموال الناس للخطر".
من الناحية المالية، يلقي يشوعي اللوم على من صنع الموازنات التي "وزّعت أموال الخزينة على المؤسسات الرسمية التابعة للقوى السياسية. فتلك القوى تنظر إلى مؤسسات الدولة على أنها ملكٌ خاص، وتحاجج في أسباب تخفيض موازنات هذه الإدارة أو تلك".

السندات السيادية
تحت عباءة السياسات المالية والنقدية، يمكن النظر الى بعض المؤشرات الظرفية المرتبطة بحركة الشارع، ومنها السندات السيادية. فمع إعلان الحريري استقالته يوم الثلاثاء 29 تشرين الأول، سجّلت السندات السيادية اللبنانية تراجعات حادة في أسعارها، وُصِفَت بأنها "الأسوأ على الإطلاق" وسط أزمة اقتصادية ومالية خانقة. وتابع التراجع مسيرته يوم الأربعاء، بسبب غموض المسار السياسي المرتبط بالاستقالة. إلى ذلك، تبلّغ الحريري من الفرنسيين "تأجيل اجتماع اللجنة لمتابعة ملف مؤتمر سيدر". 

الخطوتان تشيران الى تصعيد اقتصادي سلبي لم يشفع انخفاض سعر البنزين 300 ليرة في التقليل من سلبيته. لكن هذه السلبية لا أهمية فعلية لها في ظل الظروف التي يمر بها لبنان. وحسب الخبير الاقتصادي لويس حبيقة فإن "السندات تسير مع حركة الناس، فقد ترتفع قيمتها أو تنخفض بشكل يومي، لذلك هي ليست مؤشراً قوياً يُعتمد عليه في هذه الأوضاع". ويؤكد حبيقة في حديث لـ"المدن"، أن المؤشر الأساسي الذي يفترض الركون إليه هو الاستثمار، لذلك "علينا ان نسأل حول نوايا الاستثمار في البلد، وهي نوايا غير موجودة حالياً. فالاستثمار يؤثر على البطالة التي تُعد مشكلة أساسية لدى اللبنانيين".

المصارف تنتظر الثقة
مع اشتداد حدة الاعتصامات ودخول البلاد في مرحلة اللاعودة على طريق التغيير، أعلنت جمعية المصارف إقفال أبواب كافة المصارف اللبنانية ابتداءً من يوم الإثنين 21 تشرين الأول، لتدخل المصارف في سبات عميق هدد بعدم قدرة الموظفين على قبض رواتبهم، خصوصاً وأن المبالغ المالية التي أكدت المصارف وضعها في الصرافات الآلية، لم تستطع تلبية حجم السحوبات اليومية. 

ومع استقالة الحكومة وتخفيف الاحتقان في الشارع، أعلنت المصارف استئناف عملها "دون تأكيد الراحة التامة"، على حد تعبير مصادر مصرفية. فالمصارف حتى اللحظة "لا تعرف إلى أين يتجه البلد"، تتابع المصادر في حديث لـ"المدن".
المصارف إذن في حالة ترقّب لوضع البلد، لأن "مجرد استقالة الحكومة ليست دليلاً كافياً على انتشار الثقة بين الناس. فصمود القطاع المصرفي في وجه ارتفاع الطلب على الأموال بعد إقفال لنحو اسبوعين، مرهون بمدى ارتياح الرأي العام، وهذا بدوره مرتبط بالتطورات السياسية الإيجابية التي يفترض بالأطراف السياسية العمل عليها". وبنظر المصادر فإن "التطورات السياسية يجب أن تشمل العمل بأسلوب جديد في إدارة البلد ومؤسساته".

ماذا عن سيدر؟
لم تستمع القوى السياسية إلى التحذيرات الدولية التي كانت تحث الطبقة السياسية اللبنانية على إجراء إصلاحات جدية وحقيقية للنظام، وعلى رأسها الإصلاحات الاقتصادية والمالية. وعلى عكس التحذيرات، كانت السلطة تصر على أسلوب التحاصص المالي والمعاندة السياسية، وهو ما أوصلها الى مواجهة الشارع الشعبي المطالب باستقالة الحكومة ومحاسبة المتورطين في هدر المال العام.

التحذيرات الدولية وصلت الى حد التلويح بعدم القدرة على دفع أموال مؤتمر سيدر، لأن إعطاء الأموال للبنان مشروط منذ اللحظة الأولى بإجراء الإصلاحات. ومع استقالة الحكومة، بات أمام القوى السياسية استحقاق أكبر في ما يتعلق بأموال سيدر. فالخطوة الأساسية المطلوبة هي تكليف شخصية غير استفزازية للمجتمع الدولي، بالمعنى السياسي، يليها بيان وزاري يطمئن الدول الراغبة بدفع الأموال، على أن الحكومة الجديدة ستطبق الإصلاحات التي وعدت بها الحكومة المستقيلة. بعدها، يمكن إجراء تسلّم وتسليم مطمئن لراية سيدر، بين رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري، ورئيس الحكومة الجديد. أما خارج هذا السياق، ستُعلَّق مفاعيل المؤتمر إلى أجل غير مسمى، مع استبعاد إنهاء الالتزام كلياً، لأن الدول الداعمة للمؤتمر أكدت مراراً أن لا نية لديها لفض الإلتزام.

هذا المشهد برمته لن يولّد تكراره سوى الأزمات والانهيارات. ودقّة المؤشرات السلبية يفترض أن تكون عامل ضغط على القوى السياسية لتغيير أسلوبها في الإدارة. أما التعنّت وخسارة الوقت في إلقاء التُهم والتنصّل من المسؤولية، سيعني تأزيم الوضع واتجاهه نحو مزيد من التعقيد والقتامة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024