مغتربون لبنانيون عن مصارف لبنان: سُرِقنا وغُدرَ بنا

عزة الحاج حسن

الأربعاء 2019/12/11
لطالما تعاملت الدولة اللبنانية عموماً، والقطاع المصرفي خصوصاً، مع المغتربين اللبنانيين كمورد للمال لا أكثر.. لم تتعامل معهم يوماً كمواطنين انسلخوا عن عوائلهم وبلدهم، وأرغموا على اتخاذ بلاد العالم موطناً لهم، بحثاً عن عمل أو شهادة جامعية أو جنسية أجنبية أو استقرار وأمان، أو حتى لتعويض ما حُرموا منه في بلدهم. وليس المغترب اللبناني بعين السلطات اللبنانية بأكثر من منتج للعملة الصعبة التي يديرها مصرف لبنان والمصارف، لتثبيت غير مجد للعملة المحلية، ولتمويل ديون دولة فاشلة، وتحقيق عائدات ضخمة من الفوائد والفوائد على الفوائد، والإتجار بالوهم على حساب أموال المودعين.

قيود محبطة
ما إن تفجّرت الأزمة النقدية ودخل لبنان مرحلة شح الدولارات، وبصرف النظر عن الأسباب الحقيقية التي أودت بالثقة بالقطاع المصرفي، وأجهزت على ما تبقى من الاقتصاد اللبناني.. حتى سارعت المصارف إلى الحجر على أموال المقيمين والمغتربين على السواء، من دون أي توضيحات أو تطمينات أو حتى مصارحة. اعتمدت المصارف بين ليلة وضحاها الـCapital Control وإن بطريقة غير رسمية أو قانونية، فرضت القيود على التحويلات المالية من الليرة إلى العملات الأجنبية، وعلى التحويلات من لبنان إلى الخارج.

وإذا كانت القيود المصرفية شكّلت صدمة للمقيمين من اللبنانيين، إلا أنها أشاعت حالة من الإحباط بين المغتربين وهم الاشد تأثراً بالقيود المصرفية من الزبائن المقيمين. لم تلتفت المصارف إلى ما اقترفته بحق صغار مودعيها لاسيما منهم المغتربون، ولم تكترث إلى حجم الأزمات والمشاكل التي تسببت بها إجراءاتها وقيودها القاسية، والخلل الذي أحدثته في مسار حياتهم والتزاماتهم في دول الإغتراب.

إنكسار وخذلان
وفي حين استثنت بعض المصارف عددا من كبار مودعيها من تلك القيود، وأتاحت لهم تحويل مكتنزاتهم إلى الخارج، تتمسكّ وبصرامة بتطبيق القيود على أبسط تعاملات صغار المودعين، من دون أدنى مراعاة لظروف إنسانية أو معيشية قاسية قد يواجهها مغتربون لبنانيون في الخارج.

فكيف يمكن لعائلة لبنانية مغتربة في فرنسا (كارلا أ. وزوجها وطفلها) أن تؤمّن تكاليف معيشتها اليومية وتكلفة السكن والأقساط المدرسية ورسوم التعاملات الرسمية بـ 200 يورو أسبوعياً فقط؟

تعمل كارلا في مجال الكتابة بالمراسلة مع مؤسسة لبنانية. تتقاضى راتبها عبر مصرف لبنان والمهجر بالدولار.. وقد جرت العادة أن تسحب راتبها شهرياً باليورو بالإضافة الى استعمال بطاقتها المصرفية في المشتريات اليومية، "لكن بعد فرض القيود على التحويلات لم يعد بإمكاني سحب أكثر من 200 يورو أسبوعياً"، تقول كارلا في حديثها إلى "المدن"، حتى راتبي الشهري لا يمكنني التصرف به! وتسأل كيف يمكنني سداد الأقساط المدرسية عن إبني وإيجار منزلي وتأمين معيشتنا اليومية؟ فكّرت كارلا بالمجيء إلى لبنان وسحب مبلغ مالي بالليرة اللبنانية وتحويله إلى دولار عبر الصرافين. وهو ما أقدمت عليه فعلاً لمرة واحدة، إلا أن العقبات كثيرة أمام هكذا حلول، بينها تكبدها تكاليف سفر إلزامي وخسارة ما لا يقل عن 30 في المئة من مدخولها كفارق سعر الصرف. وتبقى العقدة الأساس أن كامل التعاملات في فرنسا لا تتم نقداً إنما عبر تحويلات مصرفية.

المشكلة لا تقتصر على استحالة تأمين المصاريف فحسب، بل تتعداها إلى حال من الإنكسار والخذلان تركتها أزمة المصارف في نفوس المغتربين.. "بلدنا سرَقنا". بهذه الكلمات عبّرت كارلا عن حال آلاف المغتربين اللبنانيين في أوروبا وسائر دول العالم: "أشعر بأن أحدهم سلبني تعب 20 عاماً تعويض نهاية خدمتي، الذي حصلت عليه من الضمان الإجتماعي وأودعته في أحد المصارف اللبنانية، مَن يعوّض عليّ تعبي وحصيلة سنوات عمري؟"

لا تحويلات بعد اليوم
هواجس المغتربين وقلقهم من ضياع أموال جنوها على مرّ سنوات خارج وطنهم، زرعت في نفوسهم الكثير من الغضب والقهر، وعزّزت إحساسهم بالغدر من قبل سلطات بلدهم، والعجز عن استحصالهم على حقوقهم ومدخراتهم. وأشاعت بينهم توجهات "احترازية" تقضي بعدم تحويل أي أموال إلى لبنان عبر المنظومة المصرفية.

التراجع الكبير في التدفقات المالية للمغتربين إلى لبنان لم يكن مفاجئاً بالنسبة إلى خبراء الإقتصاد والمال، الذين حذّروا منذ اليوم الأول لفرض القيود على التحويلات، من أن تلك القيود وإن كانت غير رسمية إلا أنها ستطيح بشريان الحياة المالية في  لبنان، وهو أموال المغتربين.

لم نعد نحوّل مدخراتنا ولا مخصصات أهلنا إلى لبنان عبر المصارف، تقول كاتي د. (المغتربة وزوجها في قطر) في حديث مع "المدن". ونحن كعشرات الأصدقاء من المغتربين اللبنانيين في قطر ننتظر سفر أحدنا إلى لبنان ونرسل معه ما توفّر لنا من أموال نقداً إلى أهالينا. أما في ما خص الإدخار فالبعض يرسل نقداً ويدخر في منزل ذويه في لبنان. والبعض الآخر يفضّل الإدخار في البلد المضيف، تجنباً لتحويل الأموال عبر المصارف اللبنانية وتجميدها. وبالتالي، عدم القدرة لاحقاً على التصرف بها.

وتشدد كاتي على ضرورة حفظ المداخيل من دون تحويلها إلى لبنان "ذلك لتلبية إحتياجاتنا والتزاماتنا، خصوصاً بعد تجميد التحويلات المالية من حساباتنا المصرفية من لبنان إلى قطر" مستغربة كيف يمكن أن يحدّد مصرف سوسييتيه جنرال SGBL سقفاً للسحوبات الخارجية بـ50 دولاراً فقط أسبوعياً، وتسأل: كيف يمكن أن ينفق المغترب اللبناني ويؤمن معيشته بمبلغ لا يتجاوز 200 دولار شهرياً، فيما لو اضطر إلى ترك عمله، أو طرأ عليه أي مستجدات تحتم إنفاقه من مدّخراته؟"

حتى في الحالات الإضطرارية، يلجأ البعض إلى تحويل المال لذويهم في لبنان عبر شركات التحويل المالي كـ"Western Union"، على الرغم من تسليم المبلغ المحوّل بالليرة اللبنانية، وهو حال محمد (المغترب في قطر)، الذي يفضل التحويل تسليم اليد عبر أحد الأصدقاء أو عبر Western Union، وذلك هرباً من التحويل عبر المصرف وحجز الأموال.

بلدنا سرَقنا
يسيطر هاجس الإفلاس المصرفي على المغتربين اللبنانيين، مع استمرار المصارف في فرض القيود القاسية وفي ظل عدم وجود رؤية اقتصادية مالية ونقدية واضحة، وغياب حكومة، وانعدام أي مبادرات رسمية لحل الأزمة. تلك الصورة السوداوية تُفقد لين ر. (مغتربة في دبي مع زوجها وإبنها) الأمل من استعادة مدخراتها التي جنتها "بالقطارة"، وأودعتها في بنك بيبلوس، وتجعلها يائسة، كما الكثيرين من زملائها المغتربين، من قدرة لبنان على الوقوف مجدداً: "نتابع الأخبار يومياً. وكنا مطمئنين نوعاً ما إلى انقشاع تلك الغيمة نظراً لثقتنا بتأكيدات مصرف لبنان مراراً بأن حجم احتياطي العملات الأجنبية لا يزال مرتفعاً نسبياً، إلا أن صدور تقرير ميريل لينش مؤخراًن وكشفه عن الضعف المخزي للاحتياطات الأجنبية أفقدنا أي أمل باستعادة أموالنا. "نحن ببساطة انسرقنا والمصارف خذلتنا"، تقول لين، وتسأل في حديثها إلى "المدن": كيف تسمح لنفسها المصارف أن تذلنا بسحوبات لا تتجاوز 300 دولار أسبوعياً (عبر بنك بيبلوس) مع عمولة تبلغ 15 دولاراً على كل عملية سحب، كيف يمكننا أن نثق بعد اليوم بالمصارف اللبنانية ونحوّل أموالنا إلى لبنان؟ فعلاً إنه أمر مستحيل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024