جائحات ثلاث ودولة تهتلك

عصام الجردي

الإثنين 2020/07/27

كيف يصمد لبنان في وجه الجائحات الثلاث؟ كورونا تحولّ وباءً. مع سدنة المال، ودولة تهتلك في أسوأ الحِقب. التحذيرات التي أطلقها وزيرا الصحة والداخلية والمدير العام لمستشفى رفيق الحريري، ومكتب رئيس الحكومة، من دخول لبنان المرحلة الرابعة من تفشّي الوباء، وعدم قدرة وحدات العناية المركّزة في المستشفيات على استيعاب حالات الوباء ضمن وتيرة تطوره التي تحققت في الأيام الأخيرة، تُدخل لبنان في الاختبار الأصعب. كيفية المفاضلة بين الوقاية من الوباء، وبين الحفاظ على الحدّ الأدنى من محركات الاقتصاد التي لم تتوقف عن العمل بعد. لاسيما منها في قطاع النقل الجوي، المعبر شبه الوحيد للتحويلات المالية اليدوية إلى لبنان. أي الاختبار الذي تنوء تحته كبريات الدول في العالم، لاسيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين التي تسهم بأكثر من 55 في المئة من الناتج المحلي العالمي. لا يتوفر بعد علاج وقائي للوباء يمنع حدوثه. ولا دواء يستطبّ به بعد تحققه. الحماية الوحيدة المتاحة ذاتية باتت معروفة. بقي على المواطنين والمقيمين أن يختاروا. من يريد الذهاب إلى حتفه على قدميه ليذهب. الاستهتار بحياة الآخرين أبعدين وأقربين، دونه عقوبات لتكن موجعة. وعلى الحكومة القيام بها لتضيفها إلى لائحة إنجازاتها!

سيأتي وقت قد لا يطول كثيرًا، تصبح فيه كل السلع من خارج المواد الغذائية والمستلزمات الطبية والوقود في حاجة إلى سعر صرف مدعوم من مصرف لبنان قبل أن تظهر نتائج السلّة الغذائية المثقوبة. الأخطر، أن الاعتماد المالي الصادر عن المصارف اللبنانية بات هو الآخر موضع سؤال، بعد أن جفّت أرصدتها لدى المصارف المراسلة أو تراجعت إلى حدّ تتحفظ معه الأخيرة عن تنفيذ خطابات الاعتمادات. حصة الاعتمادات من الدولار الأميركي المدعوم ازدادت في تموز الجاري نتيجة تراجع سعر صرف العملة الأميركية على اليورو إلى 1.15 الأدنى منذ نحو 11 شهرًا. واليورو عملة الاستيراد الرئيسة للبنان. مصارف كبيرة نقلت علاقاتها الخارجية من نيويورك إلى مصارف مراسلة فرنسية لتفادي أي عقوبات أميركية لا تزال واردة في أي وقت بموجب قانون ماغنتسكي على سياسيين ورجال أعمال لبنانيين متّهمين بالفساد، كما أكّد أكثر من مسؤول في واشنطن.

"غادر ولم يعد"!
ماذا يحصل الآن لمعالجة الانهيار المالي والنقدي؟ أمر واحد. من يتحمّل الخسائر؟ وكأن المرتكب "غادر منزل مخدومه ولم يعد. الرجاء ممّن يعلم عنه شيئًا الاتصال بأقرب مخفر".. هكذا ببساطة. مصرف لبنان والمصارف قادت هجومًا مضادًا على الخطة الحكومية كي تجتنب خسارة رساميلها كليًا أو جزئيًا تبعًا لمسؤولية كل منها. قفزت فورًا إلى أصول الدولة حلًا سهلًا مدعومة من رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي الذي كلّف المهمّة لرئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان ومقررها النائب نقولا نحّاس. بمباركة 70 نائبًا على ما يقول نحّاس. الغبار الكثيف الذي يصعد من اجتماعات ما يسمّى "لجنة تقصّي الحقائق" البرلمانية وممثلي الحكومة ومصرف لبنان والمصارف بات يتركّز على من يتحمّل الخسائر. إنّما تحت لافتة كبيرة "نرفض الـHaircut والمسّ بالودائع".. والحقيقة أنّ المصارف تقصد استرداد ديونها من الدولة وتحميلها المسؤولية الأولى والأخيرة. واذا لم تفعل فالدولة هي التي ستحمّل المودع الخسائر وليس المصارف. إذا كان الأمر كذلك لتفرج المصارف عن ودائع الناس وتتوقف عن أساليبها المبتكرة لمصادرة حقوقهم. أمّا مصرف لبنان الذي أنّبه صندوق النقد الدولي لإخفائه الخسائر في بند "موجودات أخرى" من ميزانيته فيصرّ على أسلوبه المحاسبي لإطفاء خسائره بعد ترحيلها لسنوات مقبلة. وهو الذي يحمل توظيفات المصارف لديه من الكتلة الدولارية. هو أيضًا ينتظر صندوق أصول الدولة وكياناتها التجارية مضافًا إليه سندات صادرة عن وزارة المال لحسابه كي يسدّد ديون المصارف الناجمة عن توظيفاتها لديه.

القضاء ثم القضاء
يحصل كل ذلك والانهيار المالي مستمر والتضخّم خرج من الرقابة. والوباء يغرز مخالبه. بينما تغيب دولة الدستور والمؤسسات التي نعدّها جائحة الجائحات. المصارف، ومصرف لبنان، ورجال الأعمال كلهم صاروا ضد صندوق النقد الدولي وقواعد المحاسبة الدولية والوكالات الدولية ذوات الصلة. كل هذه الدعاوى الباطلة دونها القضاء اللبناني الشفّاف والعادل القوي والمستقل. هذا القضاء هو القادر على تحديد الخسائر وتحديد المسؤوليات كل بحجم ما ارتكب. المصارف ومصرف لبنان والدولة. إعادة هيكلة القطاع المالي كذبة كبرى من خارج نظام قضائي فاعل. واستعادة الأموال المنهوبة مستحيلة من دون قضاء حرّ وقضاة شجعان. لا يمكن بناء ملف يحوّل إلى الخارج لاستقصاء مسار التحويلات ومستقرّها. لماذا لم يصدر قانون الكابيتال كونترول في حينه؟ لسببين لا يخفيان على أحد؟ الأول لتهجير ما أمكن من أموال، فالقانون يجيز ذلك ولو تعددت الأغراض. وما زال القانون ساري المفعول. لكن الأسوأ من ذلك أن من بين الأموال المحوّلة أموال منهوبة وموهوبة من نفوذ سياسي تنطبق عليه أحكام القانون رقم 44 لمكافحة تبييض أموال وأموال الإرهاب. والمشكلة في هذه المجال أنّ أي ملف قانوني يحال إلى مراجع قضائية ومصرفية في الخارج لاستعادة هذا النوع من الأموال فيه اتهام ضمني للمصارف اللبنانية التي خرجت منها الأموال المنهوبة. أو تلك المتأتية من رشى وبيع نفوذ من المشاريع والمناقصات العمومية. والمقصود تحديدًا المناقصات التي حصلت بقرارات وزارية وحكومية من خارج إدارة المناقصات وخلافًا لرأيها. المصارف الأجنبية التي استقبلت تلك التحويلات إنما بافتراض أنها أموال نظيفة لمجرد تلقيها من مصارف تقتفي قوانين الامتثال الدولية لمكافحة تبييض الأموال وأموال الإرهاب. ولديها هيئات مولجة بتنفيذ أحكام تلك القوانين. ولدينا منها الهيئة الخاصة في مصرف لبنان ويرأسها حاكم مصرف مركزي بالذات. ولا تخضع بنصّ القانون للسلطة السياسية من قريب أو من بعيد.

ثمة سؤال آخر في السياق. هل حصلت تحويلات إلى الخارج من خلال مصرف لبنان أو بعلمه في تلك الفترة؟ معلوماتنا نعم حصل ذلك. أحد تلك التحويلات واحد بنحو 270 مليون دولار أميركي لمستثمر خليجي واحد معروف بالإسم والجنسية. سياسيون ورجال أعمال حوّلوا بالتأكيد. أي تحقيق في المصارف المعنية مع مديرين من الدرجة الرابعة وما فوق وفي أقسام الأسواق الخارجية سيفضي بسهولة إلى الحقيقة. هؤلاء أيضًا حولوا وأتيحت لهم معلومات ليست متاحة سواسية لعملاء المصارف التي يعملون فيها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024