الثُقب الأسود فاجتنبوه

عصام الجردي

الأحد 2018/12/02

من معالم استعصاء تأليف حكومة، بعد سبعة أشهر من حكومة تصريف الأعمال في أي دولة، أن النظام السياسي في هذا البلد لا يعمل بانتظام. أو أن الديموقراطية العميقة في البلد المعني لم تمكّن ممثل الحزب الفائز في انتخابات نيابية، إنجاز تأليف الحكومة لقصور العدد الكافي من نواب حزبه. أو لفشله في التحالف مع أحزاب أخرى. الأمر حصل ويحصل في دول عريقة، ليس آخرها ألمانيا والنمسا. وتاريخ إيطاليا حافل بتجارب مماثلة. 


لكن الدولة المعنية مؤسسات ودستوراً لا تتعطل من العمل في كل الظروف. ولأن لبنان خارج معادلة الديموقراطية والنظام البرلماني الديموقراطي على ما يقول الدستور، بعد تشويه تلك المعادلة بالمناصفة بين الطوائف، وبانتخابات على أساس طائفي، فوجه الشبه ببلدان أخرى ليس واقعياً للتشبه. ولا وجه الشبه قائم في الدولة، التي يستمر فيها إعمال الدستور والمؤسسات خلال فترة الفراغ الحكومي وتصريف الأعمال. ما نشهد في هذه المرحلة من انتقال عجز آليات النظام السياسي الطائفي الكلية، إلى هياكل النظام الجزئية، ومحاولات ذرّ الفتن داخل الطائفة والمذهب، لا ينبئ بقرب الخروج من المأزق الحكومي وحسب، بل بغد مجهول مصيره، معلومة نتائجه.

عجز نظامي
وإذ يهجس المواطن اليوم بخطورة الوضع المالي والاقتصادي والنقدي، وبهموم تأمين أود معيشته، تدفع القوى السلطوية والمتسلطة بهذا الوضع إلى التهلكة. وتعلم تلك القوى أن المخاطر المالية والنقدية والاقتصادية، هي خاصرة الوطن الرخوة. مع ذلك لا يهتزّ من أعصابها عصب. وكأن تلك القوى مدفوعة للضرب في الخاصرة. فتمنع تأليف الحكومة وتدفع بالانهيار. ولا يوجد أرخى من خاصرة الوطن سوى الأراجيف التي تُسوّق لمنع تأليف الحكومة. ولو توخينا النوايا الحسنة على استغباء، يخطىء من يعرقل تأليف الحكومة إذ يعتقد أن الأوضاع المالية والاقتصادية والنقدية، عادت لتحتمل الكيد السياسي. فهامش المناورة بات ضيقاً وشبه معدوم. حتى لو حصلت تسوية سياسية، وتألفت حكومة بعد فوات الأوان. أين مصلحة الوطن والمواطن من كل ما يجري؟

لم يعد تكرار الكلام عن العجز المزدوج في الموازنة والحساب الجاري يعتّد به. الأول قد يتجاوز 10 في المئة، في نهاية 2018. والثاني 20 في المئة إلى الناتج المحلي الاجمالي ويزيد. بات الهاجس كيف نؤمن تمويل الخزانة والموازنة. وكيف نمول دفع الرواتب والنفقات الجارية وخدمة الدين. تحدثنا قبل سنتين عن مخاطر عجز نظامي لميزان المدفوعات في بلد يعتمد التدفقات النقدية لتمويل فاتورة استيراد زهاء 70 في المئة من استهلاكه. 130 مليون دولار أميركي عجز ميزان المدفوعات في الفصل الثالث حتى نهاية أيلول 2018. من أين ستأتي التدفقات النقدية إلى بلد نظامه لا يعمل، وحكومته لا تؤلَف ومؤسساته مغلولة اليد. حتى الفوائد ما عادت تغري.

لا يصلّي اللبنانيون الآن لردّ القضاء، بل وللطف فيه. الأرقام الأخيرة في الأسبوع المنتهي في 30 تشرين الأول 2018، تنبىء بتدفقات نقدية معاكسة من الداخل إلى الخارج. وبتحويلات من الليرة إلى العملات الأجنبية. تفسير ذلك تراجع الودائع بالليرة 60 ملياراً. والودائع بالعملات الأجنبية بقيمة 326 مليار ليرة. أي ما يعادل 216 مليون دولار أميركي. هنا أيضاً المخاطر مزدوجة. التحويلات إلى الخارج تتطلب خروجاً من الليرة إلى العملات الأجنبية. ومزيداً من عجز ميزان المدفوعات. بلوغ الفوائد بين المصارف (إنتربنك) 20 في المئة، يؤكد حاجة المصارف إلى السيولة، لاستجابة الطلب على العملات الأجنبية. استقرار سعر الصرف على 1507.50 ليرات يعني أن مصرف لبنان يتدخل لاستجابة الطلب من العملات الأجنبية الموظفة لديه من المصارف. أي أن التدخل من الودائع المصرفية. وقد تراجعت الودائع المصرفية الاجمالية في 15 تشرين الثاني 2018، 386 مليار ليرة. أي نحو أكثر من 256 مليون دولار أميركي. أي هندسة مالية ومهندس سيقويان للدفاع عن سعر صرف عملة وطنية في ظروف كهذه؟ وأي هندسة باتت متوفرة لو توفر المهندس؟

أكسدة الطوائف
غالباً ما يسجل الفصل الأخير من السنة نتائج ايجابية ناجمة عن ارتفاع النفقات الاستهلاكية وتحويلات اللبنانيين في الخارج ومردود السياحة على نحو خاص. هذه الحركة أيضاً مشكوك فيها في ضوء الوضع السياسي والحكومي والمناخ العام. لو صحّ هذا السيناريو يعني أن فاتورة الاستهلاك سترتفع، وأعداداً كبيرة من اللبنانيين سيؤثرون قضاء فترة الميلاد ورأس السنة في الخارج لينفقوا بتحويلات معاكسة هرباً من منغصات العيش وغياب الخدمات وأكسدة الطوائف.

ثمة إشارة طبقية مقيتة التُقطت على رادار السلطة الزبائنية في الأسبوع الأخير من تشرين الأول الماضي. تمثلت بمحاولة سد عجز إصدار سندات الخزانة من خلال اكتتاب الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. فقد سجّل عجز إصدار السندات الإسمي في 22 من الشهر المذكور نحو 66 مليار ليرة لبنانية نتيجة عدم تجديد المصارف الاستحقاقات بالكامل. فاستُعين بأموال صندوق الضمان لتغطية ثلثي العجز والاكتتاب بنحو 44 مليار ليرة.

القرار الذي أتى من المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، كان بناء على قرار سياسي من وزارة المال وحكومة تصريف الأعمال. هذه أسوأ هندسة مالية تقدم عليها وزارة المال والدولة هذه المرة. وتعتبر تدميراً اجتماعياً. التعويضات بموجب القانون دين ممتاز متوجب السداد يفوق ودائع القطاع المصرفي امتيازاً. ومرتبط بآجال استحقاق تديره مؤسسة بوصاية الدولة وإشرافها. يمثل حقوقاً لنحو مليون و500 ألف من الأجراء والعمال ومن هم على عاتقهم من أسر وعائلات. وليس لمدير عام الصندوق منفرداً أن يقرر في غياب مجلس إدارة ولجنة مالية، أين يوظف حقوقاً مملوكة ومتوجبة الاداء  وبفوائد مخفوضة، لتمويل زبائنية سلطة فاسدة وعاجزة. وليس لوزير أو لرئيس بموجب القانون أن يملي على الصندوق إدارة أمواله. والدولة نفسها مدينة للصندوق زهاء مليار و880 مليون دولار أميركي حتى نهاية 2017. وذنب فقراء لبنان والمنتسبين إلى الصندوق أنهم مكتومو الطائفة وفي قيد المواطنة. الكرّاز السياسي لا يدافع عنهم. يأخذ منهم لينفق على التمويل الزبائني وزبائن الطوائف. هذا ما وصلنا إليه من تسيب وحفافي الهاوية. أموال المضمونين ثقب اجتماعي أسود فاجتنبوه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024