كارثة الحرائق: خصخصة الإطفاء فمحاصصة بدل الدفاع المدني؟

خضر حسان

الخميس 2019/10/17
كشفت الحرائق المستمرة منذ فجر يوم الثلاثاء 15 تشرين الأول، ما يتخطّى تقصير الدولة بأشواط. فلم تعد كلمة "تقصير" تكفي، والأصح، هو إستعمال كلمة "تآمر"، لأن النظام السياسي بكل أركانه داخل حكوماته المتعاقبة متفق على الاستخفاف بعقول الناس وقدرتهم على تحليل المعطيات السياسية والاقتصادية، واستنباط الخلاصات منها. لكن في الحقيقة أن الناس قادرة على التمييز والملاحظة، لكن لا قدرة لديها على الانتفاض لأسباب ذاتية وخارجية، تتمحور الأولى حول التأقلم مع الواقع بصورة سلبية، تؤدي الى التبعية والتجديد للنظام. وتتعلق الثانية بربط أركان النظام لقمة عيش وصحة المواطنين، بقرارها السياسي والخدماتي. وفي جميع الحالات، تبقى النتيجة تكرار للأزمات من دون خطط وبرامج فعلية للمواجهة.

مبادرات وليس خطة
بعفوية وإحساس بالمسؤولية، تطوّع أفراد وجمعيات مدنية للمساهمة في تقديم المساعدة للمناطق التي استهدفتها الحرائق ولسكانها المتضررين. بالتوازي، حافَظَ أركان النظام على وتيرة نشاطاتهم السياسية وتراشقهم الإعلامي، متجاهلين خطورة الكارثة البيئية والإنسانية التي تعبر منطقة الى أخرى. 

المجلس الاقتصادي والصناعيون والتجار
والتحاقاً بركب الأفراد والجمعيات وبعض المؤسسات التجارية، تحرّك المجلس الاقتصادي والاجتماعي وجمعيتيّ الصناعيين وتجار بيروت، على خط المساعدة "للاهتمام بالشق الاجتماعي والبيئي للكارثة"، عبر بحث كيفية "مضاعفة التجهيزات للدفاع المدني، تأمين سيارات اطفاء لكل اتحاد من اتحادات البلديات في لبنان، إضافة الى التوعية والارشاد"، وفق ما رشح عن اللقاء التضامني الذي انعقد يوم الأربعاء 16 تشرين الأول، برعاية وزير الصناعة وائل أبو فاعور.

أما المساعدات، فستُقرر وتُقدَّم بعد الاجتماع الذي سينعقد بعد مسح الهيئة العليا للإغاثة الأضرار، وتسجيلها تقريراً حولها. فحينها "يطلع الصناعيون والتجار على نوعية المساعدة التي يمكن أن يؤمنوها".

وبانتظار التقرير النهائي، فإن التقرير الأولي للهيئة العليا للإغاثة، سجل عدم وجود عمليات نزوح. وهناك أضرار في بعض المنازل وفي بعض الممتلكات".

كل يوم بيومه
كمن يعمل مياوماً أو "على القطعة"، تتعاطى الحكومات مع مواطنيها ومؤسساتها العامة. فلا هيئة أو مؤسسة أو جهة عامة فعلية لإدارة الكوارث والأزمات وتوقّعها واستباق الإجراءات الحمائية لها. لا شيء سوى التخبّط في بداية الوقوع في أي كارثة. يليه تسابق لإطلاق الشعارات التضامنية مع المتضررين ووعودهم بالتعويض، ثم تشكيل اللجان وتكليف الهيئات لمسح الأضرار، وبعدها البحث عن مصادر تأمين التمويل، مروراً بتوزيع بعض المساعدات والأموال، انتهاءً بعشوائية التوزيع وطي الصفحة انتظاراً لكارثة جديدة وتخبّط آخر.

اختيار الحكومات العمل على القطعة، جعل أركانها يعترفون لسنوات بأهمية وجود الدفاع المدني في ظل الكوارث الطبيعية. والاعتراف لم يُبقِ أحداً من السياسيين خارج حفلة التضامن مع عناصر الدفاع المدني، حتى كاد التضامن يخدعنا ويُنسينا التساؤل عمّن رفض تثبيتهم في ملاك الدولة كعناصر رسميين بحاجة إلى خدماتهم. علماً أن الحرائق أكدت الحاجة الى ما يزيد عن العناصر الموجودة على كافة الأراضي اللبنانية. فهل يصل تجاهلهم ورفض تثبيتهم برغم الحاجة، الى طرح تعاقد الدولة مع شركات خاصة لإطفاء الحرائق والتناحر على تحاصص التلزيمات؟ الأمر ليس مستغرباً، فالبريد تحوّل الى ليبان بوست وكهرباء لبنان أكلتها البواخر ومقدمي الخدمات.. واللائحة تطول.

التخلّي عن الناس
اعتاد اللبنانيون سياسات اللامبالاة الاقتصادية والاجتماعية. تمكنوا لسنوات من بناء حياة منعزلة عن الارتباط بالدولة بوصفها الإطار الراعي لشؤون المواطنين. فهم اختبروا غياب الدولة خلال الحرب الأهلية واستمروا كذلك بعد وقف القتال، لأن نموذج دولة ما بعد الحرب لم يختلف عمّا قبلها إلاّ ببسط الأمن، وإن كان بالتراضي. لكن التباعد بين الدولة والمواطنين وصل إلى حد القطيعة، وهذا ما أثبتته الحرائق. 

لُبُنات القطيعة بدأت بالاختمار مع موازنتي 2019 و2020، حين أصرّت السلطة على نسف طابعها الرعائي من خلال المس برواتب الموظفين ومعاشاتهم التقاعدية وفرض المزيد من الضرائب، من دون خدش المصارف والمعتدين على الأملاك العامة والمتهربين من دفع الضرائب، لا بل عمدت الى تخفيض غرامات التأخير وإلغاء بعضها، تشجيعاً للمزيد من التهرّب.
اتساع الهوة بين الدولة والمواطن عززه التساؤل حول تحضيرات الدولة بمختلف أجهزتها، لمواجهة كوارث أقوى من الحرائق، على غرار الزلازل أو ربما الإشعاعات النووية، فهل ينتظر الإشعاع النووي الدولة لكتابة تقاريرها والبحث حول سبل المعالجة أو دفع التعويضات المالية والعينية؟

أيضاً، اتكال الدولة على مبادرات القطاع الخاص، من دون تقديمها هي القسم الأكبر من الحماية المبنية على خطط استباقية، يرسّخ في وعي المواطنين عجز دولتهم وارتقاء القطاع الخاص وتحوّله الى جهة رعائية تحميهم أكثر من الدولة. وهذا ما بات محسوماً في ما يخص المستشفيات والمدارس والجامعات والجهات الضامنة. وهذا ما يشرّع لمتضرري الحرائق وكل المواطنين، الإيمان بأن الدولة ستدير ظهرها بعد هدوء أزمة الحرائق وانشغال اللبنانيين بأزماتهم الاقتصادية والاجتماعية المتجذرة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024