مثلثُ الرعبِ للشعب والوطن

عصام الجردي

الإثنين 2019/11/18

يمضي اختراب الوطن بسرعة مريبة. إشارات السقوط في الأسوأ الذي أتى بالفعل تومض بالنذُر الكالحة. ما كان ماثلًا احتمالًا، نحن في صلبه الآن. الأمل في ألاّ يكون السقوط مريعًا فحسب. طاف ديوجين الذي تحول فيلسوفًا في بلاد الإغريق بمصباحه الخافت النور في وضح النهار، مرددًا إنه يبحث عن رجل فاضل تحت أشعة الشمس. حتى إذا بلغ أمره الاسكندر الأكبر جيء به إليه فسأله، ألا تخافني ديوجين؟ أجابه بسؤال على طريقة اليسوعيين الذين جاؤوا من بعده، هل أنت رجل صالح؟ بلى. أجاب الاسكندر الأكبر. ردّ ديوجين، إذا كنت رجلًا صالحًا فلماذا أخافك؟ يبحث الشعب هذه الأيام عن مجرد رجل مسؤول وصالح تحت ضؤ الشمس وفي وضح النهار، ليصارح اللبنانيين بواقع الحال وبقرارات الإنقاذ. وعبثًا يفعل.

هل من فجوة مالية؟
إلى الرجل "المسؤول والصالح" الذي لم نعثر عليه بعد تحت ضؤ الشمس نقول:

الناس ينتظرون إعادة فتح المصارف أبوابها أمام عملائها، مسكونين بالقلق على ودائعهم وحقوقهم. شراء الوقت بالإضرابات لم تكن فكرة مشينة لتتدبّر المصارف أمر السيولة الشحيحة لديها وتلبية عملائها.

للمسؤول الذي لا نعرف مكانه واسمه نقول. هذه أخطر قضية يواجهها لبنان. نؤكد من جديد، لا تعبثوا في هذه المنطقة. لا يمكن وقف الضغط على المصارف من دون فتح نوافذها أمام عملائها للحصول على استحقاقاتهم في أوانها أصلًا وفائدة. مهما كان الثمن. هذه مسؤولية المصارف ومصرف لبنان والدولة اللبنانية. الثمن اليوم هو أكبر غدًا. وفادح بعد غدٍ. ما بعد ذلك فوضى لا يملك أحد القدرة على التحكم بها. من مصادر معلومات رصينة، أن هناك فجوة في الالتزامات تقدّر بنحو 35 مليار دولار أميركي تائهة بين مصرف لبنان وبين المصارف. الأول أبدى استعداده لتوفير السيولة بالعملات الأجنبية للمصارف بفائدة 20 في المئة، شريطة استجابة طلب عملائها وعدم تحويل السيولة إلى الخارج. والمصارف طلبت خفض الفائدة. وهو سعر الحسم يراه مصرف لبنان على توظيفات المصارف لديه، شهادات إيداع طويلة الأجل من ودائع مصرفية قصيرة الأجل. سيحسمها مصرف لبنان  قبل استحقاقها بسعر 20 في المئة. عدم الملاءمة (Mismatching) بين ودائع المصارف وبين توظيفاتها سمة قديمة في المصارف. وتنسحب على التمايز بين موجوداتها وبين مطلوباتها عمومًا. وتحتاج إلى إدارة سيولة حصيفة وحذرة، خصوصًا في فترات مخاطر ائتمانية وسياسية وعدم استقرار اجتماعي. وكل تلك العناصر كانت واضحة لمصرف لبنان وللمصارف منذ سنوات بعيدة.

أصحاب الحقوق لا علاقة لهم بهذا الشأن. ومصرف لبنان المعني بالسياسة المصرفية عنايته باستقرار سعر الصرف، كان عليه التحسب للمضي بإسراف في الهندسات المالية التي عقّمت سيولة المصارف لديه بالعملات الأجنبية للدفاع عن سعر الصرف بتكلفة باهظة جدًا، واستهان بأثر عدم ملاءمة موجودات المصارف مطلوباتها في الظروف الاستثنائية. والمصارف التي استطابت لها معدلات الفوائد المرتفعة، أسرفت بدورها في توظيفاتها لدى مصرف باعتبارها صفرًا في درجة المخاطر، وسيولة شبه جاهزة متاحة لها وميسورة في زمن الشدّة. لم تنقلب الأمور رأسًا على عقِب فجأة. وقد كان واضحًا تراجع التدفقات النقدية الخارجية وعجز ميزان المدفوعات منذ 2011. لكن شيئًا لم يتغير. ما تغير المزيد من السوء وعلاوة المخاطر. إنكشاف على ديون دولة عاجزة ماليًا وسياسيًا ومؤسسيًا. وانكشاف على مصرف لبنان بتراجع احتياطاته الحرّة من العملات إلى حد الصفر أو فوقه. لم تعد توظيفات المصارف لديه من الودائع المصرفية في خانة صفر مخاطر وسيولة شبه جاهزة. ولا سندات الخزانة للدولة في المقام نفسه. العكس حصل. خفض تصنيف المصارف جاء لانكشافها على خفض تصنيف الدولة السيادي وتراجع احتياط مصرف لبنان. وها نحن الآن في مواجهة مثلث الرعب الحقيقي. حقوق الناس لدى المصارف. وملاءة المصارف نفسها التي تحفظت على زيادتها بواقع 20 في المئة على دفعتين. وشكوك كبيرة في قدرة مصرف لبنان على الاستمرار في تثبيت سعر الصرف. وكل ذلك بعد تكلفة تثبيت سعر الصرف.

علمنا من الاجتماع الأخير في قصر بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون، أن لجنة تألفت لمعالجة الوضع  قوامها وزير المال علي حسن خليل ووزير الاقتصاد والتجارة منصور بطيش وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيس جمعية المصارف سليم صفير. لكن اللجنة لم تعقد اجتماعاتها. ولا قدمت أفكارًا لحلول موقتة حدًا أدنى. وكالة موديز ترقب مراجعة تصنيف الدولة السيادي سلبًا. بعد المندرجات الدنيا في فئة CCC بقي تصنيف أوراق الدين السيادية يوروبوندز (Junk Bonds) سندات الخردة على بعد خطوات معدودة.

أين "النشيد النقدي"؟
المواطن قلق على استقرار سعر الصرف وتفلت الدولار الأميركي من عقاله. السعر المستقر عند مصرف لبنان لم يعد هو نفسه في السوق الموازية عند الصيارفة. ذوو حد الأجور الأدنى في القطاع الخاص من 675 ألف ليرة شهريًا، أي 450 دولارًا أميركيًا على أساس 1500 ليرة للدولار الأميركي، تراجعت أجورهم الحقيقية بسعر الصرف الرائج 1900 ليرة إلى نحو 355 دولارًا. أي 95 دولارًا. وعلى سعر صرف 2000 ليرة تتراجع الأجور إلى 337 دولارًا. أي 113 دولارًا أميركيًا. الخسارة نفسها للعاملين في القطاع العام والأجهزة العسكرية والأمنية تبعًا لرواتبهم. ذوو الأجور والرواتب المتوسطة يخسرون مئات الدولارات الأميركية شهريًا بسعر الصرف الموازي في الوقت الحاضر. الآتي في علم الغيب. وسعر الصرف لا يفقد الدخول قوتها التحويلية فحسب، بل وقوتها الشرائية من السلع والخِدمات. أمّا من لا دخل لهم والعاطلون من العمل وأُسرهم فـ"مثواهم الجنّة والأقدار"!

السيولة للمصارف الآن يا حاكم مصرف لبنان وعلى وجه السرعة مع إجراءات استثنائية أنت تعلم هندستها ولا أحد غيرك. وفتح المصارف غدًا بلا إضرابات مصطنعة تراكم الطلب والقلق. تأليف الحكومة فورًا بلا خيانات وتآمر وثرثرة على الشعب والوطن. وبلا جنون والدفع نحو الهاوية. المهلة قصيرة جدًا للبدء في خطوات جريئة لإخراج البلد والناس من مثلث الرعب والفوضى.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024