بضريبة واحد بالمئة على ثروتهم يختفي فقرنا: من هم؟

علي نور الدين

الثلاثاء 2021/09/07

خلال العام الماضي، وفي عزّ الانهيار، كان هناك ما يقارب 91 مليار دولار من الثروات الموجودة بيد أقل من 10% من اللبنانيين، والتي كان بإمكانها الإسهام بالقضاء على الفقر من خلال ضريبة واحدة لا تتجاوز نسبتها 1% سنويّاً. هذه الأرقام التي وردت في تقرير الأسكوا الأخير، جاءت كدلالة إضافيّة على حجم التفاوت الكبير في الدخل والثروة بين المقيمين في لبنان، خصوصاً أن التقرير نفسه أشار إلى أن نسبة الذين يعانون من فقر متعدد الأبعاد ارتفعت لتبلغ نحو 82% سنة 2021.

ببساطة، ما يعيشه لبنان لم يعد شكل من أشكال الفروقات الطبقيّة التي يمكن استيعابها، بل تحوّل إلى تركّز فاحش في الثروة والمداخيل. وهذا الواقع لم يأتِ من فراغ، بل من طبيعة السياسات الماليّة والاقتصاديّة التي تم اعتمادها قبل الأزمة، ومن التوزيع غير العادل للخسائر الذي جرى بعد الانهيار. هنا، يصبح الاقتصاد في خدمة القلّة، بدل أن يؤسس لنمو اجتماعي عادل ومتوازن.

تركّز الثروة الفاحش
كي لا يظن أحد أنّ ثمّة مبالغة في الحديث عن تركّز الثروة في لبنان، وعن السياسات التي أدّت لذلك، من المهم الإشارة إلى أن مسألة تركّز الثروة يتم قياسها في العادة وفقاً لمعايير ومؤشرات اقتصاديّة علميّة. فحسب تقرير لـ"كريدي سويس"، احتلّ لبنان المرتبة الثامنة عالمياً لجهة انعدام المساواة في توزّع الثروة، من ضمن الشريحة العليا من البلدان المتوسّطة الدخل، مسجّلاً نسبة 81.9% في مؤشّر جيني المعتمد لقياس عدالة توزّع الدخل القومي. مع الإشارة إلى ارتفاع نسبة هذا المؤشّر، واقترابها من مستوى 100%، يُعد علامة سلبيّة تدل على تزايد التفاوت في توزّع الدخل، في حين أن هذه النسبة لا تتجاوز مثلاً حدود 30% في الدول الاسكندنافيّة، أو مستوى 32% في فرنسا وألمانيا.

لفهم سبب الارتفاع الكبير في المؤشر في الحالة اللبنانيّة، يمكن العودة إلى تفاصيل توزّع الدخل في لبنان: إذ يستأثر أقل من 1% من اللبنانيّين فقط بنحو 40% من الثروة الوطنيّة الموجودة في البلاد، فيما تستحوذ شريحة 10% الأكثر ثراءً في المجتمع على أكثر من 70% من الثروة. وإذا أخذنا بتقدير الأسكوا نفسه لحجم ثروة شريحة 10% الأثرى، فسيتبيّن أن قيمة هذه الثروة تتجاوز 2.7 مرّات قيمة الناتج القومي للبلاد بأسره، ما يدل على مستوى التركّز الفاحش في الثروة في لبنان.

وفي كل الحالات، ظهر حجم هذه التفاوتات بشكل كبير قبيل الانهيار المالي، عند دراسة توزّع الودائع على الحسابات المصرفيّة. إذ تبيّن عندها أن 0.86% من إجمالي المودعين يمتلكون وحدهم نحو 52% من قيمة الودائع الموجودة في النظام المصرفي، بينما لم يملك أكثر من 59% من المودعين إلّا أقل من 0.64% من هذه الودائع. هنا، ظهر أن نسبة التفاوت في توزّع الودائع المصرفيّة على المودعين يفوق التفاوت في توزّع الثروة على جميع المقيمين، ما يؤشّر إلى استئثار فئة صغيرة من المجتمع بالعوائد الماليّة للأنشطة الاقتصاديّة، وهذا تحديداً ما أشار إليه صندوق النقد الدولي نفسه في عدّة تقارير. مع الإشارة إلى أن نسبة تركزّ الودائع انخفضت مؤخراً، لكن بفعل تمكّن كبار المودعين من تهريب سيولتهم إلى الخارج قبل الانهيار وبعده، وليس بفعل أي تحوّل في توزّع الثروة في المجتمع.

اقتصاد القلّة المحظية
ما الذي يجعل دولة كلبنان تملك نسبة تركّز في الثروة والدخل تفوق 2.6 مرّات مثيلتها في الدول الأوروبيّة؟ ببساطة: فتّش عن النموذج الاقتصادي المنهار، أو عن السياسات الرسميّة التي تؤثّر على كيفيّة توزّع الثروة في المجتمع، والأنشطة الاقتصاديّة التي تغذّيها هذه السياسات وتشجّع عليها. ومن ثمّ، فتّش عن طريقة التعامل مع الانهيار الذي ضرب هذا النموذج الاقتصادي، وطريقة توزيع الخسائر التي ألمّت بالدولة والمجتمع. هنا، يتضح كيف يصبح المجتمع بأسره، وأنشطته الاقتصاديّة، في خدمة قلة محظية تراكم الثروات في لبنان والخارج. وكيف يصبح فقر الغالبية الساحقة من المقيمين مجرّد كلفة يدفعها الجميع للحفاظ على ثروة هذه القلّة المحظية.

منذ التسعينات، وحتّى حصول الانهيار منذ سنة وعشرة أشهر، قام النموذج الاقتصادي اللبناني على تسمين النظام المصرفي وتضخيم أصوله وموجوداته، بشكل غير متناسب مع حجم الاقتصاد الحقيقي. وقبيل الانهيار، كان حجم الموجودات المصرفيّة قد تخطى ثلاثة أضعاف حجم الناتج المحلّي الإجمالي للبلاد، وهو ما مثّل ظاهرة غير مألوفة في العمل المصرفي. في هذا المسار الغريب، كان النظام المصرفي يتغذّى من توظيف أكثر من 71% من موجوداته في الدين الحكومي ومصرف لبنان، وهو ما رتّب على ميزانية الدولة ما يقارب 9 مليارات دولار سنويّة كفوائد على هذه التوظيفات.

باختصار، تحوّل النظام المالي بأسره إلى أداة من أدوات تركيز الثروة بيد القلّة، عبر استنزاف المال العام كفوائد على هذه التوظيفات في الدين العام ومصرف لبنان، ومن ثم توجيه هذه السيولة إلى جيوب أصحاب المصارف، من خلال الأرباح التي كان يراكمها هذا القطاع. أما الفوائد التي كانت تدفعها المصارف للمودعين، فكان الجزء الأكبر منها يذهب إلى كبار المودعين بالتحديد، نظراً لتركّز النسبة الأكبر من هذه الودائع في قلّة صغيرة من الحسابات المصرفيّة.

اتسمت سائر الانشطة التي هيمنت على الاقتصاد اللبناني بالنمط الريعي نفسه، وبالأثر ذاته لناحية توزّع المداخيل والثروة، كحال أنشطة المضاربة العقاريّة وتجارة البناء. هذه القطاعات، لم تحمل عملياً قيمة مضافة مرتفعة، ولم تساهم بخلق عدد كبير من فرص العمل، ولا برفع الطلب على اليد العاملة. وبالتالي، لم ينتج عنها زيادات كبيرة في حجم الرواتب والأجور. لا بل يمكن القول أن نمو هذه القطاعات ارتبط بفقاعة القطاع المصرفي نفسها، حين مثّل تمويل الطفرة العقاريّة أحد أبواب استثمار سيولة المصارف، من خلال القروض التي تم منحها لتجار البناء والقروض السكنيّة. وهكذا، كمّل القطاع العقاري دور القطاع المصرفي، من ناحية تركيز الثروة بيد القلة المحظية.

يُضاف إلى كل تلك العوامل، السياسات الضريبيّة، التي فرضت ضريبة ثابتة على الشركات المحدودة المسؤوليّة، بمعزل عن حجمها أو حجم أرباحها، وبمعزل عن القيمة المضافة التي تقدمها للنشاط الاقتصادي في البلاد. بل وعلى العكس تماماً، نجت بعض الأنشطة الريعيّة، كالمضاربات العقاريّة مثلاً، من عبء الضرائب القاسية. ولكل هذه الأسباب، كانت السياسة الضريبيّة تمعن في تسهيل مراكمة الثروة بشكل سريع وسهل عبر النشاط الريعي، في يد حلقة ضيقة من الشركات والأفراد.

ثمن الانهيار
وكما دفعت الغالبية الساحقة من المقيمين ثمن ازدهار هذا النموذج الاقتصادي، دفعوا مجدداً ثمن انهياره. فالقلة المحظية والنافذة تمكنت من حماية رساميل المصارف من أي اقتصاص طوال الفترة الماضية. كما تمكن جزء كبير منها من تهريب الودائع إلى الخارج بعد الانهيار، أو من تحويلها بشكل طبيعي قبل الانهيار، بفضل امتلاك كبار المودعين ما يكفي من علاقات لتتبّع الوضع المالي والحذر من مآلاته، ولفتح الحسابات في المصارف الأجنبيّة.

في المقابل، دفعت الغالبيّة الساحقة من المقيمين من محدودي الدخل ثمن الأزمة بطرق كثيرة: من خلال التدهور في سعر الصرف، والذي نتج عن طبع النقد للتعامل مع بعض خسائر المصارف. ومن خلال ارتفاع معدلات البطالة، وموجات الصرف التي طالت عمال المؤسسات بمختلف أحجامها. أما تدهور ظروف جميع أشكال شبكات الحماية الاجتماعيّة، من تعليم رسمي وطبابة حكوميّة، وتراجع نسبة تغطية المؤسسات الضامنة، فضاعف من مستوى هذه الضغوط المعيشيّة.

طرح صندوق التضامن الاجتماعي
الأسكوا تطرح في تقريرها فكرة صندوق وطني للتضامن الاجتماعي، للتخفيف من وطأة الأزمة، فيما يمكن لشريحة 10% الأكثر ثراءً أن تساهم في دفع فاتورة مكافحة الفقر من خلال ضريبة تصل لحدود 1% فقط على الثروة. يتميّز هذا النوع من الضرائب باستهدافه الشريحة الأثرى في المجتمع حصراً، فيما يتم دفع نسبة معينة من إجمالي الثروة التي يمكلها الفرد مرّة كل سنة، بهدف تمويل شبكات الحماية الاجتماعيّة التي تستفيد منها الشرائح الأكثر فقراً.

الإشكاليّة الأولى في طرح الصندوق، تكمن اليوم في ضعف نظام التتبّع الضريبي في لبنان، الذي يُفترض أن يساهم في ملاحقة هذه الثروات والكشف عنها. كما تبرز صعوبات أخرى ناتجة عن نزوح جزء كبير من هذه الثروة إلى الخارج، قبل حصول الانهيار المالي وبعده، بينما لا يبدو أن ثمّة قرار سياسي بتتبّع هذه الأموال جديّاً وإعادتها. في الوقت نفسه، لم يتم حتّى اللحظة تذليل عقبة السريّة المصرفيّة، التي تحول دون تتبّع الثروات الماليّة المتبقية داخل النظام المصرفي. أما إذا تم تذليل كل هذه العقبات، فبإمكان هذا النوع من الأفكار أن يساهم في تمويل بعض شبكات الحماية الاجتماعيّة التي يحتاجها لبنان اليوم، ولو أن حجم الانهيار وطبيعته باتا أكبر من يُعالج بهذا النوع من الخطوات وحدها.

المسألة الأكيدة اليوم هي أننا صرنا بحاجة إلى ما هو أبعد وأكثر جذريّة من هذه الضريبة وحدها. فأزمات من قبيل الخسائر المتراكمة في النظام المالي، وفوضى أسعار الصرف، وتعثّر الدولة في سداد سنداتها، تحتاج لتصحيح جذري يعيد توزيع الخسائر ما بين جميع الأطراف والشرائح الاجتماعيّة، وبشكل عادل يخفف من العبء الذي يطال اليوم محدودي الدخل. ومن دون هذه الإجراءات، لا يمكن إعادة الانتظام إلى النظام المالي أو ميزانية الدولة أو سوق القطع، ولا يمكن الشروع بأي سياسات إصلاحيّة أخرى. وبعد هذا المسار، يمكن الذهاب باتجاه نموذج اقتصادي مختلف، يأخذ بالاعتبار ضرورة فرض ضرائب تصاعديّة، ووضع سياسات ماليّة تنهض بالقطاعات المنتجة، بدلاً من تشجيع الربح الريعي السريع. هنا يمكن لضريبة الـ1% وصندوق التضامن الاجتماعي أن يكونا جزءاً من سياسات إعادة التوزيع التي ستعتمدها الدولة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024