حين تبلغُ الأزمة المؤسسة العسكرية

عصام الجردي

الإثنين 2019/06/03

كلام قائد الجيش العماد جوزف عون، السبت الماضي، في متحف فؤاد شهاب، وجّه رسائل دالّة إلى السلطة السياسية في لبنان، على خلفية الأزمة المالية. وما تضمنته موازنة 2019 من حسم لمكتسبات العسكريين، والتدخل المباشر في أولويات عسكرية وأمنية، يفترض أن تقدرها قيادة الجيش، وتتكفل بتبعاتها المالية موازنة الدولة.

الدولة وكياناتها المؤسسية
حتى يوم السبت الماضي، كان الجيش اللبناني المؤسسة الوحيدة الباقية من ركائز الدولة خارج التنابذ السياسي والمواقف السياسية البلدية، لأطراف السلطة وأحزابها. هذا شأن، وامتثال الجيش للقرار السياسي في مجلس الوزراء ولقرارات مجلس الدفاع الأعلى شأن آخر مختلف. وهو مبدأ لم تتجاوزه قيادة الجيش منذ نهاية حقبة رئيس الجمهورية السابق شارل حلو 1964 – 1970 حين تحولت الشعبة الثانية (المكتب الثاني) جزءاً مقرراً في الحياة السياسية اللبنانية، وطرفاً مباشراً مع فريق ضد الآخر. وبذلك، تصل ارتدادات الأزمة المالية، التي نؤكد من جديد إنها تعكس أزمة نظام سياسي مفلس، لتضرب صلب الدولة وكياناتها المؤسسية، وتشمل مؤسسة الجيش الوطني. لم يعد في لبنان مؤسسة أو قطاع خارج أزمة النظام السياسي المعبر عنه بالأزمة المالية. القضاء، الإدارة العامة، الجامعة اللبنانية والأساتذة، المعلمون وأساتذة التعليم الثانوي والقطاع التربوي، الجمارك، النقل والموانئ الجوية والبحرية وكل شيء ليس على وجه الحصر. بينما يغرق المجتمع أكثر فأكثر في الفاقة، والعوز، والبطالة، وسوء الخدمات على أنواعها.. والتلوث. وكانت الجريمة السياسية الكبرى بحق الوطن يوم شرع النظام باستيلاد مؤسساته التي يفترض أن تتجدد كل فترة بحسب منطوق الدستور وأحكامه، خلافاً للدستور. كل مؤسساتنا الدستورية من رئاسة الجمهورية، ومجلس النواب، ومجلس الوزراء والحكومة وُلدت بعمليات قيصرية. وإلاّ، ما معنى بقاء البلد بلا انتخابات رئاسية نحو سنتين. وبلا مجلس نواب منتخب من الشعب وليس بالتجديد سنوات. وبلا حكومة نحو ثمانية عشر شهراً؟

الإنفاق في العتمة
تفاقُم الأزمة المالية الاقتصادية والاجتماعية التي لم يبُح بكل أسرارها بعد. ما كانت الأزمة لتسلك هذا المنحى الجائر، لو كان النظام السياسي وأحزاب السلطة تعمل لدولة وشعب وكيان. وقد كان المطلوب بسيطاً في تفكير السذّج أمثالنا! كأن يتنازل أركان السلطة عن امتيازات طبقية مالية وسياسية وأمنية – عسكرية، يحوزونها خلافاً لمنطق الدولة والدستور والقوانين، ولمدونات السلوك والأخلاق. نسوق مثالاً بسيطاً، تراكم حسابات المالية العامة سنوات طوالاً، بإرادة سدنة النظام السياسي، هو الذي حال دون متابعة المسار المالي وأوجه الإنفاق. أي عملياً سرقة الدولة ومكلف الضريبة اللبناني. ما كان الإنفاق ليستمر في العتمة لو كانت هناك موازنات سنوية حسب الأصول، وقطوع الحسابات وحسابات المَهمة. حتى مشروع قانون موازنة 2019، يستحيل إمراره في مجلس النواب لو اقتفى ديوان المحاسبة منطوق الدستور وتمسك بقطع حساب 2017 كما ورد استثناء في قانون موازنة السنة المذكورة. ولفرط أزمة النظام السياسي، بات أركان الدولة المؤتمنون على الدستور يضغطون لتسويات مع ديوان المحاسبة وإلاّ اخترب البلد. هكذا يحصل مع مجلس الخدمة المدنية، والتفتيش المركزي، وإدارة المناقصات العمومية. تمتد يد الآن إلى قوى الأمن الداخلي وشعبة المعلومات وكل ما بقي من مؤسسات عاملة بنجاح.

أزمة النظام السياسي وصلت إلى حدّ حمل قائد الجيش على توجيه رسائل مباشرة إلى السلطة السياسية نتيجة "الحملات التي يتعرض لها الجيش والتي تستهدف معنويات عسكرييه" على ما قال عون. وأكد رفضه "المس بحقوق الضباط والجنود وبكراماتهم". وكشف عون "لم يُترك للجيش خيار تحديد نفقاته. وباتت أرقام موازنته مباحة ومستباحة، وعرضة للتحليلات والنقاشات. وكأن المقصود إقناع الرأي العام بأن الجيش يتحمّل سبب المديونية العامة. حتى أن توزيع مهام الجيش وتحديد الأفضلية في التدابير العسكرية أصبح مادة جدلية تتم مناقشتها على المنابر".

قائد الجيش وباسيل
ما حذّر منه قائد الجيش ربما يعقّد ما لحظه مشروع قانون الموازنة حسومات من معاشات العسكريين والمتقاعدين. وما يتصل بالتدبير رقم 3. قد تكون السلطة السياسية بالغت في الإعتماد على السرية التي تحكم عمل المؤسسة العسكرية. بيد إنها تبالغ في الغباء إذ تعتقد أن الجيش الذي يفترض إنه يملك معلومات استخبارية عن فساد السياسيين وسرقاتهم وارتباطاتهم، سينصاع بسهولة لمحاولة المسّ بتمويله أنشطته العسكرية واللوجستية وصولاً إلى رواتب العسكريين وتقديماتهم. ومما لاشك فيه أن كلام قائد الجيش سيعطي جرعة دعم للمتقاعدين المعترضين في الشارع. ولغيرهم من موظفي الإدارة العامة وأساتذة الجامعة اللبنانية والقضاة المعتكفين.

أمّا ما يتردد عن محاولة لإضعاف قائد الجيش "مرشحاً محتملاً" لرئاسة الجمهورية خلفاً للرئيس ميشال عون، فأمر مستبعد. من دون استبعاد الرغبة الجامحة لرئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل للقبض على الرئاسة والجمهورية قبل نحو سنوات أربع من موعد الإنتخابات. ولوحظ في اليومين الأخيرين إنه جدّد العزف على وتر "الميثاقية". باسيل كان الوزير الأول في الحكومة الذي أعلن خفض الرواتب والتقديمات في القطاع العام. وحذّر بما مفاده "وإلاّ لن تقبضوا معاشات بعد الآن". بيد أن ما يؤكده باسيل كل يوم، إنه لا يكن وداً لأي ماروني خلافاً لنفسه. هذه ثقافة متأصلة لدى الرجل وتياره ومن يشد أزره. لبنان استحق الكثير من العقوبات. نشك إنه يستحق مثل هذه العقوبة بعد!

الجلسات المتلفزة
هناك نحو 110 نواب من أحزاب السلطة في مجلس النواب من أصل 128 نائباً ممثلون في الحكومة. لجنة المال والموازنة النيابية التي ستبدأ في مناقشة مشروع قانون موازنة 2019، عليها غض الطرف عن الكثير من الفجوات الدستورية في مشروع القانون. لا نتحدث عن فجوات اقتصادية، فالاقتصاد معدوم في مشروع قانون كناية عن تركيب حسابات وأرقام بالتقطيع والتوصيل. هامش تسجيل البطولات على غرار "طلبنا، وقلنا، ونوافق ولا نوافق" ضيق أمام اللجنة. تأتي التعليمات من مجمّع السلطة الطوائفي فتطاع. إلاّ اذا سلكت قضية التعاقدات في القطاع العام مسلكاً شائكاً في ديوان المحاسبة. في أي حال سيترك المجمّع لنوابه تحقيق "بطولات وعنتريات" في جلسات المناقشة المتلفزة في مجلس النواب. لسنا نعلم موقف المجلس من تقديمات الجيش ومعاشات تقاعد العسكريين بعد كلام قائده. وكل يوم يمضي يؤخر في زفّ البشرى إلى دول مؤتمر سيدر. وقد نُسأل هل هذه موازنة 2019 أم موازنة 2020!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024