خفض سقف السحوبات: تجفيف السوق من السيولة بالليرة

علي نور الدين

الأربعاء 2020/10/14

منذ أيام، تتالى الأنباء عن مجموعة من الإجراءات التي يتخذها كل من مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، والتي تصب جميعها في سياق واحد: امتصاص وسحب السيولة النقديّة المتوفّرة بالليرة اللبنانيّة من الأسواق. الهدف الواضح حتّى الآن من كل هذه الإجراءات، هو تقليص المعروض من هذه السيولة بالعملة المحليّة، لتخفيف الطلب على الدولار الأميركي. وبالتالي، الحد من التدهور الحاصل في سعر الصرف، لا بل إطلاق مسار تصاعدي مؤقّت يرفع قيمة الليرة مقابل الدولار إلى حدّ ما. كما يُعتقد أن تجفيف السوق من السيولة بالليرة، وبدء ارتفاع قيمة الليرة مقابل الدولار، سيدفع اللبنانيين إلى إخراج ما يملكون من سيولة بالعملة الصعبة في المنازل لبيعها. وبالتالي، التسبب بالمزيد من الارتفاع بقيمة الليرة مقابل الدولار.

الأكيد حتّى اللحظة، أن هذه الإجراءات بدأت تأخذ طريقها إلى التأثير في سعر الصرف، وتحديداً من خلال التحسّن الذي شهده اللبنانيّون خلال الأيام الماضية في سعر صرف الليرة. لكنّ التخوّف الأساسي يكمن اليوم في التداعيات المتوقعة من هذه الخطوات، سواء من ناحية تأثير التجفيف المتعمّد والمفاجىء للسيولة على حركة الاقتصاد، أو من إمكانيّة حصول أزمة سيولة بالليرة شبيهة بأزمة السيولة الحاصلة بالدولار.

في هذه الحالة، سيكون المصرف المركزي قد دفع باتجاه تخفيف أزمة سعر الصرف، والتي أدّت إليها سياساته التي قامت منذ تشرين الأول الماضي على طباعة النقد بالليرة، لسداد الودائع المدولرة بالعملة المحليّة. ولكن معالجة أزمة سعر الصرف ستكون على حساب افتعال أزمات أخرى لا تقل أهميّة ستطال اللبنانيين ومعيشتهم.

سحب الليرات من السوق
خلال الفترة الماضية، استمر المصرف المركزي بدعم استيراد السلع الحيويّة كالمحروقات والدواء والقمح، حين كان مصرف لبنان يؤمّن 85% من قيمة الدولارات المطلوبة لاستيراد هذه المواد، فيما كانت الشركات المستوردة تسدد لمصرف لبنان قيمة هذه الدولارات بالليرة اللبنانيّة، ووفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم، أي 1507.5 ليرة للدولار الواحد. وبالطريقة نفسها، كان المصرف المركزي يدعم استيراد مواد السلّة الغذائيّة المدعومة، إنما وفقاً لسعر المنصّة البالغ اليوم 3900 ليرة للدولار. وعمليّاً، كانت الشركات المستوردة، وأغلبها من كبار المستوردين وتجار الجملة، تدفع ثمن الدولارات المدعومة للمصارف بموجب شيكات أو حوالات بالليرة، فيما كانت المصارف تقوم بدورها بتحويل هذه المبالغ إلى مصرف لبنان بالنيابة عن الشركات.

أمّا الجديد اليوم، فهو صدور التعميم الوسيط رقم 573 عن مصرف لبنان، والذي قضى بسداد هذه المبالغ المتوجّبة على الشركات المستوردة بالليرة بموجب أوراق نقديّة، لا بالشيكات المصرفيّة أو الحوالات كما كانت تفعل سابقاً. أما نتيجة هذا القرار، فستكون امتصاص كتلة ضخمة من السيولة بالليرة اللبنانيّة من الأسواق، وتخفيض مستويات الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة.

ولفهم ضخامة الكتلة النقديّة التي نتحدّث عنها هنا، يكفي أن نذكر أن مصرف لبنان وفّر الدعم خلال النصف الأول من هذا العام لما يقارب 2.13 مليار دولار من واردات لبنان من القمح والمحروقات والدواء، وفقاً لسعر الصرف الرسمي 1507.5، أي بمعدّل 355 مليون دولار شهريّاً. أما المتوسّط الشهري لقيمة السلع الغذائيّة التي باتت مدعومة من مصرف لبنان وفقاً لسعر المنصّة، أي 3900 ليرة مقابل الدولار، فتجاوز 190 مليون دولار.

تقنين سيولة المصارف
منذ أيام، بدأت معظم المصارف اللبنانيّة باتخاذ قرارات تصب في إطار تقنين السيولة المتوفّرة لديها بالليرة اللبنانيّة. أولى تلك القرارات كان تقليص سقوف السحب بالليرة اللبنانيّة على ماكينات الصرف الآلي، فيما قامت بعض المصارف بفرض قيود جديدة لم تكن موجودة أساساً، كوضع سقف أقصى لكميّة النقود القابلة للسحب أسبوعيّاً، إضافة للسقف الشهري أو اليومي. في المقابل، بدأت معظم المصارف بخفض سقوف السحب النقدي بالليرة اللبنانيّة داخل الفروع نفسها، فبلغ هذا السقف في بعض الحالات حدود 500 ألف ليرة يوميّاً فقط. ومن ناحية أخرى، كان من الملفت تزامن هذه القرارات مع إجراءات جديدة، كتخفيض سقف عمليّة السحب من الودائع الدولاريّة بالليرة اللبنانيّة، وفقاً لتعميم مصرف لبنان رقم 151، وهو ما يقع أيضاً في خانة التقشّف في استعمال السيولة المتوفّرة بالليرة اللبنانيّة.

مصادر مصرفيّة أشارت لـ"المدن" أن هذه القرارات تعكس بشكل عام تقنين مصرف لبنان لحجم السيولة التي يسلّمها للمصارف، مع العلم أن المصرف المركزي لا يتدخّل مع المصارف فيما يخص سقوف السحب التي تفرضها في الفروع، أو على ماكينات الصرف الآلي، أو حتّى وفقاً للتعميم 151. لكنّه يكتفي بتحديد قيمة السيولة التي يسلّمها للمصارف التي ينبغي أن تحدد هذه السقوف بما يتلاءم مع حجم السيولة الموجود لديها. وعمليّاً، وحسب المصادر نفسها، يبدو أن تقنين المصرف المركزي للسيولة التي يضخّها للمصارف يتناسب مع توجّهه الجديد، والقاضي بتطويق الكتلة النقديّة الموجودة بالليرة في الأسواق وحصرها، ومحاولة تخفيض حجمها تدريجيّاً.

مشاكل شح السيولة
الإجراءات المستجدة والمفاجئة للمصارف تسببت بالعديد من المشاكل وخصوصاً للتجّار، الذين وجدوا أنفسهم بين إجراءات مصرفيّة مستجدة تحد من سحب السيولة بالليرة نقداً، ومطالبة تجّار الجملة بتقاضي ثمن البضاعة نقداً، بعد أن فرض مصرف لبنان تسديد ثمن البضائع المدعومة والمستوردة بالأوراق النقديّة. باختصار، أصبحت الشيكات والتحويلات غير مفيدة وخصوصاً بالنسبة لتجار المواد الغذائيّة والمحروقات والقمح والدواء. وهو ما فرض مشهداً مختلفاً على المستوى المالي. أولى نتائج هذه التغيّرات الملموسة بالنسبة للمواطنين، كان إحجام الكثير من التجار عن قبول البطاقات الائتمانيّة كوسيلة للدفع، بعد أن أصبح سحب السيولة الناتجة عن هذه العمليات تحدّياً جديداً، بالنظر إلى نوعيّة القيود المصرفيّة الجديدة على السحوبات بالليرة. أما التخوّف المستجد، فبات من حصول أزمة سيولة خانقة بالليرة، على النحو الذي حصلت فيه أزمة السيولة بالدولار، وحصول اختلاف بين قيمة السيولة المحتجزة في المصارف بالليرة وقيمة السيولة النقديّة بالليرة، على النحو الذي تختلف فيه اليوم قيمة الدولار النقدي عن قيمة الدولار المصرفي، مع ما يعنيه هذا الأمر من تطوّر سوق للشيكات بالليرة، تماماً كما يوجد اليوم سوق لشيكات الدولار الأميركي.

في المقابل، يحذّر العديد من الخبراء الاقتصاديين من هذا النوع من الإجراءات النقديّة المفاجئة والسريعة، بالنظر إلى تسبب هذا النوع من سحب السيولة المفاجىء بالمزيد من الضمور والركود في الأسواق. فسياسة الزيادة السريعة بالكتلة النقديّة بالليرة طوال الفترة الماضية، نتيجة طبع النقد لتمويل الإنفاق الحكومي وتمويل السحوبات من الودائع المدولرة بالليرة، أدت إلى هبوط سعر الصرف الليرة بشكل قياسي. أما سياسة امتصاص كمية كبيرة من الكتلة النقديّة اليوم على هذا النحو، وإن أدّى إلى التخلّص من جزء من الإرتفاع في حجم الكتلة النقديّة بالليرة، لكنّه سيؤدّي إلى نتائج كارثيّة وإنكماشيّة على مستوى الأسواق والحركة التجاريّة، بالإضافة إلى النتائج السلبيّة الناتجة عن حبس السيولة بالليرة في المصارف. أما الحل الأفضل برأي الخبراء، فكان يقضي بتجميد الزيادة في الكتلة النقديّة واللجوء إلى إجراءات أكثر نعومة وأقل جذريّة، كامتصاص كميات أقل من السيولة وبشكل متدرّج، وبنوع مختلف من العمليّات.

في كل الحالات، بين طبع النقد لسداد الودائع، ثم سحبه من السوق للسيطرة على سعر الصرف، بات من الأكيد اليوم أن التخبّط وردود الفعل السريعة باتا السمة الأساسيّة لجميع أشكال الإجراءات الماليّة والنقديّة. وعمليّاً، يمكن القول أن جميع هذه الإجراءات تتسم بالعشوائيّة، لكونها لا تصب في إطار خطة متكاملة وهادفة على المدى الأطول، كي تتمكن من دفع البلاد فعلاً باتجاه الخروج من الانهيار المالي الحاصل. ولذلك، فمن غير المتوقّع أن يحصد اللبنانيون نتيجة هذه الإجراءات المستجدة سوى المزيد من التداعيات السلبيّة، على أن يلي ذلك جولة جديدة من المعالجات وردود الفعل المتخبطة، وكأنّها دوّامة ماليّة مفرغة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024