إعادة رسملة المصارف بلا "كابيتال كونترول": إنهم يسرقوننا مجدداً

علي نور الدين

الثلاثاء 2021/02/09

في نهاية هذا الشهر، تنتهي المهلة التي منحها تعميم مصرف لبنان رقم 154 للمصارف، لتكوين سيولة في المصارف المراسلة بنسبة 3% من الودائع الموجودة لديها بالعملة الصعبة، فيما انتهت في نهاية شهر كانون الأول الماضي المهلة الممنوحة للمصارف لتقديم طلبات زيادة الرساميل بنسبة 20%. أمّا النتائج التي ظهرت حتّى الآن من هذا المسار، فلا تبشّر بأي تطورات إيجابيّة من ناحية قدرة هذه الإجراءات على إعادة الانتظام إلى القطاع المالي ولو جزئيّاً. لا، بل يبدو أن هذه العمليّة سيكون لها تداعيات سلبيّة جداً على حقوق أصحاب الودائع ومصالحهم، فيما سيدفع جميع اللبنانيين كلفة بعض الإجراءات التي جرى اتخاذها في هذا السياق.

في حصيلة عمليّة إعادة الرسملة، لم تعد هذه العمليّة بأسرها مجرّد مسرحيّة شكليّة لتمرير الوقت الضائع، كما اعتقد الجميع في البداية، ولم ترتبط فقط ببعض الإجراءات المحاسبيّة الفارغة من أي أثر جدّي، بل تحولت إلى مناورة كبيرة مكلفة تخدم أصحاب المصارف وتحمّل الكلفة لسائر المتضررين من الأزمة.

السيولة على حساب اللبنانيين
التحدي الأول بالنسبة إلى المصارف اللبنانيّة كان مسألة تأمين السيولة في المصارف الأجنبيّة المراسلة، خصوصاً أن هذه المسألة –وعلى عكس عمليّة زيادة الرساميل- لم يكن من الممكن القيام بها عبر الألاعيب المحاسبيّة الشكليّة. مع العلم أن لجنة الرقابة على المصارف أصدرت مذكرة تطبيقيّة لهذه العمليّة بعد أن أصدر الحاكم تعميمه، حين حددت اللجنة طريقة احتساب الأموال المطلوب تكوينها لدى المصارف المراسلة بشكل محكم. وهو ما أفقد المصارف القدرة على المناورة في ما يخص هذا الجانب من تعاميم مصرف لبنان.

عمليّاً، ووفقاً لبنود التعميم 154، كان يُفترض أن تؤمّن المصارف هذه السيولة من خلال حث عملائها الذي أجروا تحويلات تفوق الـ500 ألف دولار بين تموز 2017 و27 آب 2020 على إعادة 15% من قيمة التحويلات، على أن ترتفع هذه النسبة إلى 30% بالنسبة إلى أعضاء مجالس إدارة المصارف والأشخاص المعرضين سياسيّاً. لكنّ مصادر مصرفيّة عديدة تجمع على أن المصارف لم تتعامل مع هذه المسألة بجديّة، بل اكتفت بأخذ تواقيع عملائها من باب تأكيد أخذهم العلم بهذا التعميم، لرفع المسؤوليّة عن نفسها، من دون أن تسعى فعليّاً إلى إقناعهم بإعادة هذه النسبة من الأموال التي جرى تحويلها. علماً أن التعميم حاول أن يوحي بوجود أدوات يمكن استخدامها للضغط على أصحاب هذه التحويلات، من قبيل التلويح بإحالة بعض التحويلات المشتبه بمصدرها إلى لجنة التحقيق الخاصّة، لكنّ أدوات الضغط هذه ظلّت حبر على ورق.

البديل عن إعادة التحويلات بالنسبة إلى الكثير من المصارف لم يكن سوى دخول السوق السوداء وشراء الدولارات الطازجة محليّاً، من خلال بيع الدولارات المصرفيّة (أي اللولار) أو الشيكات المصرفيّة مقابل ثلث قيمتها من الدولارات النقديّة. وبذلك، كانت المصارف تتمكّن من تكوين السيولة في المصارف المراسلة في الخارج، لكن على حساب الدولارات الموجودة فعليّاً في السوق المحليّة، وعلى حساب الضغط على سعر صرف الليرة اللبنانيّة في السوق. علماً أن أخطر ما في المسألة هنا هو الأثر الطويل الأمد. إذ أن الدولارات المصرفيّة سرعان ما ستتحوّل إلى ليرات لبنانيّة نقديّة بعد أن يتم سحبها على المدى الطويل بالعملة المحليّة وفقاً لسعر صرف المنصّة، وهو ما سيزيد من تضخّم الكتلة النقديّة بالعملة المحليّة ويفاقم من تدهور سعر صرف الليرة.

تهريب الأموال بسهولة
المشكلة الأهم هنا، كانت تناقض هذه الإجراءات مع فكرة إعادة الرسملة نفسها. ففكرة إعادة الرسملة كانت تقضي باستقدام سيولة جديدة إلى النظام المالي اللبناني من الخارج، لتحسين الوضع النقدي أولاً، ولزيادة ملاءة المصارف ثانياً. لكن النتيجة الفعليّة لإجراءات المصارف لم تكن سوى سحب الدولار النقدي من لبنان إلى الخارج، وزيادة إلتزامات المصارف وإضعاف ملاءتها من خلال خلق المزيد من الدولارات المصرفيّة (أو اللولار) لشراء الدولار النقدي من السوق. أما الفئة المتضررة من التطورين، فكانت عموم اللبنانيين المتأثرين بتدهور سعر الصرف، وأصحاب الودائع الذين سيتضررون من تراجع ملاءة النظام المصرفي وتضاؤل احتمالات استعادة ودائعهم.

أما البعض الآخر من المصارف، وتحديداً المصارف الكبرى، فلجأت إلى بيع الفروع الخارجيّة لتكوين هذه السيولة في المصارف المراسلة. لكنّ هذه المسألة، وبدل أن تشكّل عامل ثقة بالنسبة إلى أصحاب الودائع، ستشكّل خلال المرحلة المقبلة عامل قلق. فبيع الفروع المصرفيّة في الخارج، سيعني عمليّاً تحويل الموجودات المصرفيّة المتبقية من أصول ثابتة لا يمكن التصرّف بها إلى موجودات سائلة يمكن تهريبها أو تحويلها بسهولها. وبغياب أي شروط في تعاميم مصرف لبنان لكيفيّة التصرّف بهذه السيولة في المصارف المراسلة، ستكون النتيجة تمكين أصحاب المصارف من استعمال هذه الأموال لتهريب الودائع المتبقية التي تخص كبار النافذين، أو ودائع المساهمين في المصارف أنفسهم. مع العلم أن التجربة تؤكّد استعمال المصارف لموجوداتها الخارجيّة، أي سيولتها في المصارف المراسلة، لهذا النوع من العمليات المشبوهة. وفي الحقيقة، يمكن القول أن وجود هذه الحسابات في الخارج سيعني عدم قدرة أي جهة، وحتّى مصرف لبنان، على ضبط كيفيّة التصرّف بهذه السيولة.

في كل الحالات، كان من الواضح أيضاً أن سعي المصارف لتأمين هذه السيولة جاء على حساب المودعين بطرق أخرى، مثل وضع اليد على جزء من الدولارات الطازجة التي ترد إلى حسابات العملاء، والطلب من العملاء تجميد جزء من هذه السيولة أو سحبها بالليرة وفقاً لسعر صرف المنصّة، فيما كان هدف هذه الإجراءات الاستفادة من الدولارات الطازجة التي يتم مصادرتها لتكوين سيولة المصارف لدى المصارف المراسلة. كما عمدت عدّة مصارف إلى التضييق على الحسابات الموجودة بالدولار المصرفي، عبر رفض استقبال الشيكات كليّاً أو زيادة العمولات بشكل مفاجىء وغير منطقي، لدفع العملاء إلى إقفال حساباتهم وتقليص حجم الودائع المدولرة، وذلك بهدف خفض حجم السيولة المطلوب تكوينها لدى المصارف المراسلة كنسبة من التزامات المصارف للمودعين بالدولار.

إعادة رسملة فارغة
من ناحية إعادة الرسملة، أي زيادة رساميل المصارف بنسبة 20%، تمكّنت الغالبيّة الساحقة من المصارف من تقديم طلباتها لزيادة الرساميل قبل انتهاء المهلة التي حددها الحاكم. لكنّ الزيادة تمّت من خلال تحويل بعض الودائع الموجودة داخل النظام المصرفي إلى رساميل، أو من خلال إعادة تخمين بعض العقارات التي تملكها المصارف أو شركاتها العقاريّة. بمعنى آخر، وكما كان متوقّعاً، استنفدت المصارف جميع الحيل والأبواب التي فتحت المجال أمامها تعاميم مصرف لبنان، لإفراغ عمليّة إعادة الرسملة من قيمتها الفعليّة. فجميع أساليب إعادة الرسملة هذه لا تعني ضخ أي سيولة جديدة إلى النظام المصرفي، لا بل تؤدّي فعليّاً إلى تضخيم الرساميل على الورق، من دون أي زيادة في ملاءة القطاع أو قدرته على الإيفاء بالتزاماته لأصحاب الودائع.

وهنا أشار العديد من الخبراء إلى أن هذا الجزء من عملية إعادة الرسملة لم يتسم بالمصداقيّة المطلوبة، لكون هذا النوع من العمليات ينبغي أن يجري بعد تحديد قيمة الخسائر المتراكمة في النظام المالي وتنظيف الميزانيات منها. أما بوجود هذه الخسائر غير المعترف بها، فلا يوجد معنى لهذا النوع من العمليات المحاسبيّة الدفتريّة، التي لا تستند إلى أي قياس منطقي للخسائر الموجودة. مع العلم أن عملية إعادة هيكلة المصارف، بعد تحديد حجم الخسائر الموجودة، كان يفترض أن تكون من مهمّة لجنة خاصّة شكّلها الحاكم خلال العام الماضي. لكنّ هذه اللجنة لم تباشر عملها –باسثناء اجتماع يتيم- بسبب اعتراض لجنة الرقابة على المصارف على الدور المنوط بها داخل هذه اللجنة.

الغائب الأكبر: الكابيتال كونترول
الغائب الأكبر في كل هذا المسار، هو قانون الكابيتال كونترول، الذي يفترض أن يكون موجوداً قبل الشروع بتكوين السيولة في المصارف المراسلة، وقبل الطلب من المصارف زيادة رساميلها. فهذا القانون وحده قادر أن يضمن عدم تهريب الأموال التي سيتم تكوينها في المصارف المراسلة، خصوصاً إذا كانت هذه الأموال ناتجة عن بيع أصول مصرفيّة في الخارج. كما كان من المفترض أن ينظّم هذا القانون علاقة المصارف مع عملائها خلال عمليّة إعادة الرسملة، ضماناً لعدم اتخاذ إجراءات تحمّل العملاء كلفة هذه العمليّة، من قبيل وضع اليد على الدولارات الطازجة الواردة إلى حساباتهم. ولذلك، ثمّة أسئلة كبيرة مطروحة اليوم عن سبب الاندفاع إلى هذا المسار بأسره، قبل التأكّد من وجود هذا القانون، علماً أن عرقلة القانون جرت بشكل متعمّد في كل من المجلس الوزراء والمجلس النيابي، من دون وجود أي أسباب مقنعة.

لكل هذه الأسباب، لا يوجد اليوم أي سبب للتفاؤل بنتيجة عمليات إعادة الرسملة التي يجري الحديث عنها، بل على العكس، يوجد ما يكفي من أسباب للتوجّس من نتائج هذه العمليّة وأثرها على الاقتصاد المحلي وأصحاب الودائع. أما أكثر ما يقلق اليوم، فهو ما يتم تداوله من أخبار عن إمكانية تدخّل مصرف لبنان لإقراض المصارف، أو الاكتتاب بأدوات استثماريّة معيّنة معها، لتمكينها من تأمين السيولة المطلوبة لإعادة الرسملة. في هذه الحالة، سيكون مصرف لبنان قد عاد مجدداً لفكرة خلق النقد لخدمة المصارف وأصحابها، وسيكون المجتمع قد دفع ثمن الأزمة مرّة جديدة من خلال أثر الخطوة على قيمة الليرة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024