"غولدمان ساكس" يضع إصبعه على جرح الأزمة اللبنانية

المدن - اقتصاد

الأربعاء 2018/12/05
حذّر البنك الاستثماري "غولدمان ساكس" من مشكلة التمويل المالي للبنان، في ظل استبعاد ولادة الحكومة الجديدة، لكنه نفى توقعات حدوث انهيار مالي ونقدي، في ظل قدرة المصارف على تمويل استحقاقات الحكومة المالية حتى العام 2021، رغم توقعه ارتفاع الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من 170 في المئة بحلول عام 2022: "..والمحرّك الرئيسي لذلك هو عبء خدمة الدين المتعاظم باستمرار".

وأكد أن تشكيل الحكومة خطوة أولى مهمة، لتخفيف الضغوط السلبية، بشرط "إذا أدى ذلك إلى إحراز تقدم في خطط الإصلاح، وإطلاق الأموال المرصودة في مؤتمر "سيدر". ومع استحالة توقع ولادة وشيكة للحكومة، رأى أن هذا قد يزيد من تآكل الثقة بالمستقبل الاقتصادي للبنان واستدامته.

تحديات التمويل
ورأى "غولدمان ساكس" في تقريره، الذي حمل عنوان "إلى متى سيستطيع لبنان تمويل عجوزاته؟"، أن اﻟﺿﻐط في الأمد اﻟﻣﺗوﺳط من اﻟﺟﺎﻧب اﻟﺧﺎرﺟﻲ، سيضع ﻓﺟوة اﻟﺗﻣوﯾل اﻟﺧﺎرﺟﻲ تحت تأثير السيولة الحالية بالعملات الأجنبية ﻓﻲ اﻟﻧظﺎم اﻟﻣﺻرﻓﻲ (عبر الهندسات المالية لمصرف لبنان) ﻟﻔﺗرة سنتين إلى ثلاث ﺳﻧوات.

وبعيداً من هذا الأفق الزمني، يرتفع خطر التكيف الخارجي القسري، والتخلف المحتمل بشكل حاد، في غياب مصادر بديلة للتمويل، سيكون تشكيل الحكومة خطوة أولى مهمة، لتخفيف الضغوط السلبية، إذا أدى ذلك إلى إحراز تقدم في خطط الإصلاح وإطلاق الأموال المرصودة في مؤتمر "سيدر"، بما يتجاوز توقعات المستثمرين/المودعين حالياًز ومن بين الصدمات الخارجية الإيجابية الأخرى، التي يمكن أن تحسن وجهة النظر التمويلية، الالتزام بتقديم الدعم المالي من قوة إقليمية، أو تقليل المخاطر الجيوسياسية الإقليمية، لاسيما النزاع في سوريا.

في الأمد البعيد، حتى لو تحسنت النظرة التمويلية، يعتقد غولدمان ساكس أن المسار الراهن للبنان، لن يكون قابلاً للاستمرار، بسبب الاختلالات الحالية. ويعود ذلك إلى أن التمويل الخارجي للبنان لا يؤدي إلى ديون (بشكل تحويلات ودفق في الودائع)، في حين أن تمويل الحكومة للعجز، يعني حكما تراكماً سريعاً في الدين العام: "تشير توقعاتنا إلى أن الدين العام سيرتفع إلى أكثر من 170 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2022، والمحرك الرئيس لذلك هو عبء خدمة الدين المتعاظم باستمرار".

الدين العام
ولفت التقرير إلى أن الدين العام اللبناني بلغ نسبة 154 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بين الـ2001 و2017، وهي نسبة كبيرة لاقتصاد صغير". مشيراً إلى أنه في ظل الاضطراب السياسي في لبنان في الأعوام الـ14 الماضية (إغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005، ثورة الأرز، حرب تموز 2006، أزمة عام 2008، إلى الحرب السورية عام 2011)، لم ينج الاقتصاد من هذه الصدمات وحسب، بل نما بمعدل ستة في المئة سنوياً في العقد الأول منذ العام 2000.

واعتبر "غولدمان ساكس" أن مرونة لبنان المالية "اللافتة" استندت إلى ثلاثة عوامل مترابطة:

1-  صناعة مصرفية كبيرة وملتزمة. فلدى لبنان صناعة مصرفية متطورة ومستقرة، لكن حجم القطاع المصرفي وقصة دعمه للدولة، تشكل دعما رئيسا لديناميات الدين اللبناني. بلغ مجموع الأصول المصرفية أكثر من أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي في 2017، وهو أعلى بكثير من الاقتصادات ذات التصنيف المماثل. إلى ذلك، بقي القطاع المصرفي اللبناني مستعداً تاريخياً لتوزيع موارده المالية الكبيرة لمصلحة الدولة، إذ يحتفظ القطاع بنحو 60 في المئة من إجمالي الديون الحكومية. ومع احتساب الاكتتاب في سندات الليرة اللبنانية، فإن تعرض المصارف للديون يبلغ 65 في المئة من أصولها و91 في المئة من ودائع العملاء. وهذا يدعم التزام القطاع المصرفي بالقدرة المالية الملحة للحكومة.

2-  التحويلات ودفق الودائع، وهي إحدى المهمات الرئيسة للقطاع المصرفي. وقد بلغ متوسط تلك التحويلات نسبة 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على مدار الأعوام الـ15 الماضية، وهي تشكل الغالبية من الودائع المصرفية. إن هذه التحويلات لا توفر للمصارف الموارد اللازمة للاستمرار بتمويل الدولة وحسب، بل توفر أيضًا معظم التمويلات للحساب الجاري.

3-  دعم دولي قوي، ساهم بدعم مرونة لبنان المالية أيضا الدعم الذي تلقاه من المجتمع الدولي في أوقات الشدة. إذ نظمت أربعة مؤتمرات دولية لمساعدة لبنان، وكان آخرها في نيسان/أبريل 2018 (مؤتمر "سيدر" الذي تعهدت الدول المانحة بتقديم أكثر من 11 مليار دولار) كما يتمتع لبنان تاريخياً بدعم استثنائي من حلفائه الخليجيين، بدليل "وديعة" الـ1.5 مليار دولار التي قدمتها السعودية والكويت عقب حرب إسرائيل في 2006.

صمود هش
لكن في العامين الماضيين، حسب التقرير، "بدأت قصة الصمود تبدو هشة على نحو متزايد، وقد ارتفعت المخاوف من اتجاه لبنان نحو أزمة مالية، وتاليا أزمة تخلف عن السداد. ويعود ذلك إلى ارتفاع أسعار الأصول، إذ ارتفعت العائدات على الديون اللبنانية بشكل حاد في الأشهر الأخيرة. ويعزو مصرف لبنان تباطؤ التحويلات التي موّلت جزءاً كبيراً من إستحقاقات لبنان المالية، إلى عوامل عدة، أبرزها آثار الأزمة المالية العالمية، وارتفاع المخاطر الجيوسياسية الإقليمية، وانخفاض أسعار النفط منذ 2014، وعدم الاستقرار السياسي المحلي وتباطؤ نمو الاقتصاد المحلي. إلى ذلك، سنضيف احتمال انخفاض الدعم الخارجي، في ظل تصاعد التوتر بين لبنان ودول الخليج الغنية بالنفط، في السنوات الأخيرة، ولا سيما منذ أحداث استقالة الرئيس الحريري في تشرين الثاني/نوفمبر 2017.

قد يكون تباطؤ التحويلات عرضة لدينامية التعزيز الذاتي، عبر حلقة تمويل سلبية. إذ أن ثقة المودعين في لبنان تدعم إلى حد كبير الاعتقاد بأن متطلبات "التمويل" الكبيرة يتم الوفاء بها من خلال التحويلات. لكن، حين يبدأ تباطؤ التحويلات بشكل مستمر، يتم تقويض الثقة. في السنة المنتهية في أيلول 2018، بلغ معدل دفق الودائع 2.4 مليار دولار (4.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي) بتراجع من 7.3 مليارا قبل عام (13.7 في المئة من الناتج). على هذه المستويات، ظهرت مخاوف بشأن قدرة لبنان على الاستمرار في تمويل العجزين الثنائي (عجز الميزان التجاري وعجز ميزان المدفوعات) فهل هذه المخاوف مبررة؟".

وفي ظل غياب أي زيادة في نمو الودائع للفترة المتبقية من السنة، توقع التقرير عجزاً في التمويل بمقدار ملياري دولار (3.4 في المئة من الناتج)، ولفت إلى ان الودائع لم تكف في الماضي لتوفير تغطية كاملة لمتطلبات إجمالي التمويل الخارجي. وفي 2017، غطت الودائع نصف الحاجات التمويلية الخارجية للبنان، ونتوقع أن تغطي الثلث فقط في الـ2018. وبالأرقام، يترجم هذا بفجوة في التمويل الخارجي بقيمة 6.2 مليار دولار (21 في المئة من الناتج) عام 2017، و8.8 مليار دولار (13 في المئة من الناتج) عام 2018.

الهندسات إلى متى؟
وحول سؤال، إلى متى يمكن لمصرف لبنان الاستمرار بهندساته؟ أجاب "غولدمان ساكس"، أن مصرف لبنان قادر على الاستمرار بالاقتراض من المصارف، لسد فجوة التمويل الخارجي، طالما أن المصارف قادرة على الاستمرار في إقراضه: "وهذه وظيفة السيولة بالعملات الأجنبية في النظام المصرفي".

ولفت إلى أن لدى المصارف 10.3 مليارات دولار من الودائع بالعملات الأجنبية، في مصارف خارج لبنان، وتحمل نحو 17 مليار دولار من سندات "اليوروبوندز"، والأصول الأخرى القابلة للتسييل نسبياً، إلى ديون سوقية بقيمة 40 مليار دولار. واستند سيناريو "غولدمان ساكس" إلى الحدود الضيقة في استعمال هذه الأصول بالعملات الأجنبية. إذ يرى أن ودائع المصارف في الخارج تغطي أقل من سنتين من الفجوة المالية، لكنه يعتقد أن مصدر العملات الأجنبية بالنسبة إلى المصارف لا يقتصر على ذلك، بل تمكنت في الأشهر التسعة الأولى من السنة الجارية من تسييل أكثر من 500 مليون دولار من سندات "اليوروبوندز"، وخفضت الديون السوقية بالدولار بقيمة 1.2 مليار دولار واستقدمت ودائعها في الخارج بقيمة  مليار دولار، ليصبح المجموع 2.7 مليار دولار".

وفي ضوء هذا السيناريو، المستند إلى نموّ للودائع بمعدل ثلاثة في المئة، رأى التقرير أن هناك مساراً مستداماً خلال السنتين أو السنوات الثلاث المقبلة حداً أقصى: "لكن، في رأينا، لا يمكن أن يكون هناك اقتصاد يسير بثبات نحو الأزمة. أكثر من ذلك، قد يحصل أمر من اثنين خلال الفترة المقبلة: زيادة نمو الودائع إلى الحدود التي تغطي الفجوة المالية، أو خسارة لبنان الثقة، وتتسارع الأمور نحو سيناريو التوقف عن السداد. وفي حال عدم القدرة على تحفيز نمو الودائع والتدفقات من الخارج، فإنها مسألة وقت قبل أن تتقلص قدرة مصرف لبنان على الإمساك بثبات سعر صرف الليرة مقابل الدولار".

واعتبر التقرير أن لبنان يحتاج إلى انتعاش في التوازن الخارجي، "الأمر الذي يمكن أن ينجم عن مزيج من الاستثمار الأجنبي المباشر، أو الإصدار الخارجي، أو محفظة الأوراق المالية أو الودائع. وفي رأينا، هذا قابل للتحقيق. ﻓﻌﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻤﺜﺎل، أن ﻧﻤﻮ اﻟﻮداﺋﻊ ﺑنحو 6 في المئة ﺳﻨﻮﻳﺎ (أﻗﻞ ﻣﻦ 8 في المئة حيث كان كذلك في الأشهر التي سبقت تشرين الثاني) ﺳﻴﻜﻮن كاﻓﻴﺎً ﻹﻏﻼق ﻓﺠﻮة اﻟﺘﻤﻮﻳﻞ ﺑﺎﻟﻜﺎﻣﻞ".

ورأى أن الثقة المحسّنة يمكن أن تؤدي إلى ضبط الأوضاع الخارجية، على أساس أكثر استدامة، في ظل غياب التحسن في ديناميات الحساب الجاري. وجدّد "غولدمان ساكس" اعتقاده بأن تشكيل الحكومة هو الخطوة الأولى الضرورية: "إذا أدى هذا إلى إحراز تقدم بشأن برنامج الإصلاح وإطلاق الأموال المرصودة في "سيدر"، إلى ما هو أبعد من التوقعات الحالية، فإن ذلك يمكن أن يعزز الثقة بلبنان على نحو كاف لتحفيز نمو الودائع وخفض العائدات على الديون الخارجية، ما يحسن من فرص أي إصدار جديد. ومن بين الصدمات الخارجية الإيجابية الأخرى، التي يمكن أن تحسن وجهة النظر التمويلية، الالتزام بتقديم الدعم المالي من قوة إقليمية، أو تقليل المخاطر الجيوسياسية الإقليمية، لا سيما النزاع في سوريا".

تخلف عن السداد
وفي سيناريو افتراضي لتخلف لبنان عن السداد، اعتبر التقرير أنه قد ينجم عن عدم نمو الرساميل، واستمرار تدهور وضع المالية العامة، "لتكون مسألة وقت قبل أن يتمكن مصرف لبنان من الحفاظ على الاستقرار النقدي على نطاق واسع. وقد يرفع هذا الحاجة أكثر إلى التمويل، واستحالة تلبية استحقاقات لبنان الأساسية ومتطلباته الخارجية. وما قد يعجّل من ظروف هذا السيناريو المتطرف، هو التدهور في الأمن الداخلي، أو نشوب نزاع جديد مع إسرائيل".

في الأمد الطويل، فإن ضبط أوضاع المالية العامة سيتركز على المخاطر، في الأمدين القريب والمتوسط، المرتبطين بقدرة لبنان على تحديد التزاماته المالية الثنائية على نحو كاف، مع تركيز المخاطر بشكل رئيس على الجانب الخارجي.

واعتبر التقرير أن التصدي لمخاوف تراكم سريع في الدين العام، واحتمال ارتفاع كلفة الديون الحكومية بشكل حاد، "سيكون التحدي الرئيس الذي تواجهه الحكومة الجديدة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024