دخان العقوبات على برّي

عصام الجردي

الإثنين 2019/04/15

اللغط الذي أثارته معلومات صحافية عن احتمال إدراج رئيس مجلس النواب نبيه بري، وحركة "أمل"، في لائحة العقوبات الاقتصادية الأميركية، باعتباره حليفاً لـ"حزب الله" وداعماً، لم تنشأ من عدم، حسب معلومات أكيدة من مصادر لبنانية معنية بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. الوفد البرلماني اللبناني الذي زار واشنطن والتقى مسؤولين في وزارة الخزانة الأميركية نفى صحة المعلومات. في لبنان اعتُبرت من قبيل التهويل. لكن لوحظ أن مسؤولاً أميركياً واحداً لم ينفها. ولا الصحيفة الإماراتية (The National) التي نقلت الخبر عادت ونفته.

إشارة الضعف
لا يمكن فصل تلك المعلومات عن سياق مرحلة تصعيد حملة العقوبات على "حزب الله"، وتصنيف الإدارة الأميركية الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية. وبات معلوماً أن الولايات المتحدة مستمرة في هذا النهج ضد طهران والحزب. التصريح الأخير لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، قبل مغادرته بيروت، لا يحتمل التأويل. قال إن بلاده "ستمضي في استخدام كل الوسائل غير العسكرية". العقوبات الاقتصادية على طهران و"حزب الله" السلاح الأكثر فاعلية. بدأ يترك آثاراً شديدة الخطورة على طهران، ويضيّق منافذ الاستثمارات وتصدير النفط، ويثقل على الوضع الاجتماعي وموارد الموازنة. يعلم الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله إنه يُرسل إشارة ضعف إلى الإدارة الأميركية حين يعلن في خطبتين توالياً، المصاعب المالية التي تواجه الحزب، نتيجة العقوبات على طهران باعتبارها ممولاً وداعماً رئيسياً، وعلى الحزب من خلال تهديد المصارف اللبنانية لو تعاملت معه. مع ذلك فعلها. لكنه هدّد بأوراق لدى "حزب الله"، لو أقدمت الولايات المتحدة على إضافة بري وحركة "أمل" الى لوائح العقوبات. لكن ما هو خط العمق لو أدرجت الإدارة الأميركية رئيس مجلس النواب و"أمل" على لائحة العقوبات؟ ما نتائج ذلك على المصارف اللبنانية والاقتصاد اللبناني؟ وعلى العلاقات الرسمية بين لبنان وبين الولايات المتحدة؟ وماذا يضيف تصنيف الحرس الثوري الإيراني إرهابياً مرة ثانية من ضغوط على طهران؟

السيف المسلط
نشير أولاً الى أن وزارة الحزانة الأميركية كانت وضعت بري وحركة "أمل" على مسودة العقوبات في 2017. المصادر اللبنانية المعنية تؤكد ذلك. وحسب ما فهمنا، أنها بذلت جهداً كبيراً لثني الجانب الأميركي عن الخطوة. واستُحضر للمناسبة الدور الذي قام به بري و"أمل" في إنقاذ الطائرة الأميركية TWA، التي اخُتطفت إلى بيروت في العام 1985، ونجم عنها مقتل أحد رجال البحرية الأميركية كان على متنها بلباس مدني. وقد اتهمت الولايات المتحدة في حينه "منظمة المضطهدين في الأرض" التي تبنّت العملية بأنها على صلة بـ"حزب الله". مصادر المعلومات نفسها تقول أن "دولة خليجية تتسم علاقاتها بالإعتدال مع طهران و"حزب الله"، وعلى علاقة جيدة برئيس مجلس النواب اللبناني، قامت هي الأخرى في حينه بمسعى لشطب بري و"أمل" من مسودة لائحة العقوبات. وكانت اتصالات أيضاً مع السفارة الأميركية في بيروت. أمّا لماذا لم يصدر نفي أميركي رسمي للمعلومة، فردّته المصادر الى أمرين. الأول، الحظر المفروض على مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) في وزارة الخزانة التصريح في السياسة الخارجية وقوانين الكونغرس، والثاني لإبقاء سيف العقوبات مسلطاً على "حزب الله"، وما قد تصنفه الإدارة الأميركية والكونغرس في المستقبل داعماً الحزب.

القاموس الترامبي
أمّا توسيع الدائرة المستدفة بالعقوبات الأميركية لتصل الى رئيس مجلس النواب وحركة "أمل"، وما تعتبره بيئة حاضنة "حزب الله" في لبنان، فدونه ارتدادات بالغة السلبية. خصوصاً أن الأجهزة الأميركية المعنية عاجزة عن تحديد تلك الجهات، فتصبح العقوبات "لحاملها" وليست إسمية لأشخاص معلومين حقيقيين، أو لشخص معنوي من الكيانات الاقتصادية والسياسية المحددة. الأمر أقرب الى الإنتقام في بيئة سياسية واسعة داخل "حزب الله" و"أمل"، لها مكانتها في مجتمع الأعمال والمال وفي الحياة السياسية في البلد. وفي ظل الظروف الراهنة، يستحيل الإمتثال للإرادة الأميركية وعزلها عن الواقع والمجتمع، ومن شأنها خلق فوضى مالية عارمة، وقلاقل اجتماعية كبيرة. فكيف إذا كانت التسريبات بشمول العقوبات شرائح من طوائف أخرى تدعم "حزب الله"، أو تشكل غطاء سياسياً له، ولو تعددت الأهداف والنوايا المزغولة؟ "جبران بيحتل واشنطن"!

لقد حافظت الولايات المتحدة على علاقات سياسية ودبلوماسية مع لبنان رغم العداء مع "حزب الله" وطهران. ولم تقطع بعد التعامل مع الهيكل السياسي والمؤسسات الدستورية والحكومية. أن تبلغ العقوبات رئيس مجلس النواب يعني، بالقاموس الترمبي، إنها تتعامل مع لبنان دولة فاشلة، خارجة على القانون. القوانين التي أملتها وزارة الخزانة الأميركية على لبنان وكانت تعديلاً أساسياً في النظام المالي صدرت عن مجلس النواب، بوجود بري رئيساً. بومبيو عاد في لقائه الأخير مع بري إلى التأكيد بوجوب إلغاء الحسابات المصرفية الرقمية الذي أثاره مساعد وزير الخزانة مارشال بيلنغسلي في زيارة الى بيروت وأشارت إليه "المدن" في حينه.

معاقبة الاقتصاد اللبناني
في صرف النظر عن الأموال التي يحصل عليها "حزب الله" من طهران، وقنواتها ومسالكها، بيد أنها كانت تدخل في الدورة المالية والاقتصادية، ولو من خارج القنوات المصرفية. المغالاة في توسيع دائرة العقوبات على رجال أعمال، ونحو نصف المجتمع اللبناني، لمجرد الظن والشبهة، عقاب للاقتصاد اللبناني واللبنانيين.

تساءلنا في مقالة سابقة ( 10-2-2017) "ماذا لو صُنف الحرس الثوري إرهابياً"؟ وقد تم ذلك بالفعل من خلال وزارة الخزانة الأميركية. لكن التصنيف الثاني في 8 نيسان 2019، كان من وزارة الخارجية. الفرق بين التصنيفين أن الثاني يندرج ضمن القانون الجنائي الأميركي الأشد قسوة. التصنيف الأول كان يقول ببساطة، تتعاملون مع طهران لا تتعاملون معنا. وهكذا مع "حزب الله". تصنيف الخارجية الأميركية لا يتوقف عند هذا الشأن وحسب، بل يشمل بالعقوبات الجزائية من يتعاطى التجارة مع طهران، بصرف النظر إذا كان يتعامل مع الولايات المتحدة. بالإضافة إلى لائحة من الإجراءات تطال الهجرة والأميركيين من أصول أجنبية وما إلى ذلك.

إمتثلت المصارف اللبنانية التي تعيش منذ فترة "فوبيا العقوبات" بتكلفة عالية للإمتثال كانت لها تبعات على المصارف. أنشأت دوائر مستقلة (Compliance) وجهّزتها بكفايات وخبرات. ومستمرة في تطويرها بشرياً وتٍقانة، مخافة الشطط. بات عليها والبينة على المدعي في الأساس، أن تثبت هي براءتها كل يوم. قَفلت حسابات دائنة ومدينة. قامت بتحديث لوائح "إعرَف عميلك" (KYC)، وترفض فتح حسابات جديدة لظنين أو مشتبه. كلاهما مُطالب ببراءة ذمة حسابه من الفيروس الأميركي المنشأ في أساسه. وباتت الوديعة تحمل تكلفة إضافية بالضرورة. أمّا الحسابات المدينة التي أُقفلت ووضعها أكثر تعقيداً، فحملت عليها مؤونات إلى حين استرداد التسليفات. وليس بالضرورة قابلة لتُستردّ. خصوصاً اذا كانت التسليفات مرتبطة بأعمال ومشاريع توقفت بطلب من المصارف، ولحقت أضرار بأصحابها.

نعم، دخان العقوبات على بري أو "التهويل" ليس من العدم. والبيئة الحاضنة لـ"حزب الله" لبنانية ومن لدن المجتمع اللبناني واقتصاده ومؤسساته. بقي أن يدرك الحزب هذا الواقع ويعمل بروزنامة هذه البيئة ليكون محضوناً وحاضناً.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024