سيتسرّب الماء من الصخر

عصام الجردي

الإثنين 2020/02/10
دعا البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي "الحراك المدني الذي يطالب بالدولة المدنية، إلى طلب استعادة هذه الدولة واستكمالها باللامركزية الإدارية الموسعة ومجلس الشيوخ. وعندها فلتلغَ المادة 95 من الدستور، التي لا أحد يتعلق بها". كلام ذو دلالة يطلقه رأس الكنيسة المارونية في لبنان، ولمناسبة دالّة في المكان والزمان. كان يتحدث في الفاتيكان تكريمًا للبطريرك الياس الحويّك الذي كان له دور كبير في دولة لبنان الكبير، كما هو عليه الآن وبعد مئة عام. أستكمله راعي أبرشية بيروت للموارنة المطران بولس عبد الساتر.

ما قاله رأس الكنيسة المارونية في لبنان، فرصة للثوار المدنيين السلميين كي يجتازوا بشجاعة ما يعتبره أعداء الثورة منعطفات أمامها ستفرّق صفوفها آجلًا أم عاجلًا. الدولة المدنية في لبنان، بقوانينها المدنية وفي مقدمها قانون انتخابات نيابية على أساس النسبية والدائرة الواحدة، وخفض سن الاقتراع إلى الثامنة عشرة، والقانون المدني الاختياري للأحول الشخصية، المدخل للخروج من النظام الطائفي. ولبناء دولة الكفاية والنزاهة والنمو والعدالة الاجتماعية.

العفوية التي طبعت الثورة ووفرت لها مددًا شعبيًا عارمًا حقق الاختراق الأول للطائفية والمذهبية، واخترق كل المناطق. من المفيد أن تتحوّل تلك العفوية تصميمًا لدى الثورة على الدخول في مرحلة أخرى وبخطاب اقتصادي اجتماعي وسياسي، ليس جديدًا عليها بل من صلب ما تلهج به الناس في الشوارع، وفي وسائل الإعلام على النحو الذي ينقل الخطاب الرافض إلى مواقف من قضايا محددّة بحسب أولوياتها. ويبقى الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي عنوانًا رئيسًا للثورة من خلال قانون انتخاب جديد وانتخابات نيابية مبكرة أو في موعدها لا فرق، وتبعًا للتطورات.

القمع الكامن
سيتظهّر الوجه القمعي لهذه الحكومة أكثر في المرحلة المقبلة. ولا نتحدث هنا عن الحكومة بذاتها. بل عن القوى التي شكلتها وتدعمها بما تختزنه من ميول فاشية وكراهية ضد الناس الذين خرجوا على طاعتها وطوعها. ليس سهلًا على تلك القوى استيعاب حركة شعبية عارمة خارقة الطوائف على قضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية، يعاني جمهورها نفسه نتائجها كما الشعب يعاني. المجلس الأعلى للدفاع اجتمع وقرر اجراءات لتأمين انعقاد جلسة الثقة بالحكومة. الثوار سيكونون في الشارع تعبيرًا عن عدم الثقة. وسلاحهم القوي سلميتهم. يفترض أن يحافظوا عليها. هذا يزعج السلطة كثيرًا مقدار ما يزعجها الطابع المدني للثورة، وكسر الحواجز الطائفية والمذهبية والمناطقية. مثلث دعم الحكومة "حزب الله" و"التيار الوطني الحرّ" وحركة "أمل" يعرضون الآن عن زجّ محازبيهم لقمع الناس المدنيين في الشوارع. كما فعلوا أكثر من مرّة. "الحكومة معنية بحفظ الأمن والعتب مرفوع".

"يُدرك باللين ما لا يُدرك بالشدّة. ألا ترى أن الماء على لينه يقطع الحجر على شدته"؟ قولٌ مأثور في عظة راعي أبرشية بيروت الماروني المطران بولس عبد الساتر على الطريقة اللبنانية "ما حدا بيقدر يحبس المي، والناس متل المي إلا ما تلاقي منفز تنفجر منو. وفي أن ينفجر الشعب"، قالها عبد الساتر مخاطبًا الرؤساء الثلاثة الذين حضروا العظة. وكان توجه إليهم بقوله "الزعيم الصالح هو الذي يختار الرحيل أو التخلّي عن الزعامة كلّ يوم مرات ومرات على أن يخذل شعبه، أو أن يُسيء إليه ولو مرة واحدة". ما لفت توجُه عبد الساتر إلى الرئيس ميشال عون مباشرة بالقول: "يا فخامة الرئيس، في خطاب القسم تكلمتم عن ضرورة الإصلاح الاقتصادي وعن خطة اقتصادية شاملة مبنية على خطط قطاعية. وأكدتم أن الدولة من دون مجتمع مدني لا يمكن بناؤها".

هنا بيت القصيد مع الحكم وحكومة الدكتور حسّان دياب. البلد في مرحلة الانهيار المالي والنقدي، والركود الاقتصادي، والبطالة والتضخم. أي كل الآفات الاقتصادية المصحوبة بالتوتر الاجتماعي والضائقة المعيشية. جبه تلك الآفات يستحيل من دون دولة عميقة ودعم شعبي. الدولة العميقة أجهز عليها تجاوز الدستور والقوانين. غارقة في الفساد والمحسوبية. ويُحضّر لقمع الشعب وسلميته وصبره على الجور والحرمان. من أين سيدخل الاصلاح إذن؟

لا ريعي ولا منتج!
القرارات التي اتخذها المجلس الأعلى للدفاع بقَفل معابر التهريب عبر الحدود مع سوريا لن تنفّذ. الأرض ما زالت تنتج. والمزارع يزرع. لكن عبثًا يبحث عن وقف الإغراق القادم من سوريا. منتجات صناعية تتسرّب أيضًا. المزارع لا قدرة له على منافسة سعر التهريب. ولا الصناعي. يحتاجان إلى تجديد رأسمالهما التشغيلي. الخزانة محرومة من حقها في الإيرادات. قولوا لنا من هو السياسي الذي يهرّب مباشرة أو عبر زبائنه من المعابر. أو يحمي المهرّبين. أليس هذا وجه من وجوه الإصلاح المستحيل؟ هل توقفّ مسؤول عند استيراد سويسرا بالذات منتجات صناعية لبنانية تضاعفت 717 في المئة سنة 2019؟ هذه إحصاءات الجمارك. هل ينسجم هذا الواقع المحزن مع خطاب الحكم والسلطة بتحويل الاقتصاد انتاجيًا من اقتصاد الريوع. ألا تعني ديمومة هذا الواقع أن الإصلاح المالي والاقتصادي مستحيل من دون تغيير سياسي؟ يا جماعة لم يعد هناك اقتصاد لا ريعي ولا منتج. لا السحوبات متاحة من المصارف بيسر وكفاية، ولا التحويلات للمواد الأولية للصناعة والزراعة والقطاعات الخدِمية والاستهلاك.

أنّبنا المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش فوصف وضع الكهرباء عارًا على بلد كلبنان. أصرّ "التيار الإصلاحي الشهير" على وزيره للطاقة والمياه. كي يوافق على الهيئة الناظمة في مؤسسة كهرباء لبنان يطلب تعديل قانون خاص بها رفضه أسلافه من التيار في الوزارة، كي تستمر سيطرة وزير وصاية على مؤسسة يقرر لها مجلس إدارة وينفّذ. والمجلس غير موجود. ويحمل اللبنانيون من عجز الكهرباء والدين مع فوائده نحو نصف الدين العام. والكهرباء ليست موفورة. وصلنا إلى ما نبّهنا إليه قبل شهر. هل نسدد دين آذار من توظيفات المصارف وودائعها في مصرف لبنان، أم نستبقي ما يؤمن الغذاء والدواء والوقود؟ الإخلال بالسداد، توقف عن الدفع تستحق معه كل الديون الخارجية. والسداد "فهمكم كفاية".

سيتسرب الماء من الصخر. وتنتصر دولة المواطَنة على دولة الزبائنية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024