إقتطاعات مُقنّعة وإجراءات موضعية

عصام الجردي

الجمعة 2019/12/06

كيفما أتت عليه إجراءات مصرف لبنان ومن بينها التعميم رقم 536 المتعلق بمعدلات الفوائد على الودائع بالليرة والعملات الأجنبية، ففي ظل بقاء سعر صرف الليرة في اتجاه تنازلي، والثقة مفقودة، فكل العلاجات الموضعية ليست ناجعة.

صحيح أن التعميم لم يستهدف أصل الوديعة، وأبقى على العقود قبل 5 كانون الأول 2019، كما هي حتى تاريخ الاستحقاق. لكن سداد نصف الفوائد على الودائع بالدولار الأميركي والعملات الأجنبية بعملة الحساب، والنصف الآخر بالليرة اللبنانية، هو إخلال بأصل العقد، وعرضة لخفض قيمة الفوائد طالما أن سعر صرف الليرة خارج عن السيطرة. وقد تطلب التعميم أن يسدد مصرف لبنان أيضًا فوائد توظيفات المصارف لديه مناصفة بعملة الحساب والليرة اللبنانية. واضح أن الاجراءت التي يتخذها مصرف لبنان تحت الضغط، تستهدف أولوية عدم إعلان الدولة في حالة إعسار، وملاءة المصارف من أموال مساهمين حُولت إلى الخارج كما يعتقد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. بينما لا يحظى سعر الصرف بأولوية مماثلة.

إقتطاع القوة الشرئية
لكن مع واقع القيود على السحوبات بالليرة اللبنانية أيضًا، كي لا تحول إلى الدولار الأميركي لاستلحاق المتاح من حماية قوتها التبادلية، هناك اقتطاع Haircut مقنّع من قيمة الأجور والرواتب وإدخارات التقاعد. سواءٌ أكان قسم منها مودعًا في المصارف أم خارجها. ويتعلق بارتفاع أسعار السلع الأساسية والمواد الغذائية وخلافها. ولو اعتبرنا أن دخول العاملين بأجر ورواتب خسرت جراء تراجع سعر الصرف نحو ثلث قيمتها التبادلية فهناك خسارة كبيرة من قوتها الشرائية نتيجة ارتفاع الأسعار، وعدم القدرة على التحكم في عناصرها في ظل تفلت سعر الصرف، وانعدام الثقة في إمكان توفر السلع.

خفض سعر الصرف في سوق القطع التي بات الصيارفة يتحكمون بها هو خفض من الراتب والأجر. وهو أشد وطأة من خفض رسمي يعلنه مصرف لبنان للدفاع عن سعر الصرف على مستويات جديدة. لأن الهلع الذي ينتاب الناس الآن، لن يتوقف من دون جرعة طمأنينة بالحد الأدنى المتاح. خصوصًا إنه مصحوب بهلع مماثل على سحب الودائع بالليرة اللبنانية والعملات الأجنبية. من دون أن يهمز مصرف لبنان بما يوحي على الأقل بأنه موجود في السوق، ولم يغادرها إلى أجل بلا أفق. مجرد إشارة تظهره في سوق القطع كفيل بذرّ الخوف لدى الصيارفة ومراجعة حساباتهم بدفع الدولار الأميركي إلى أعلى في سوق افتقدت دليلها. وكما أشرنا في مقالة سابقة، فمصرف لبنان في وسعه القيام بذلك بجهد دولاري ليس كبيرًا ويمكنه العودة إلى تغطية مركزه، وتعويض ما عرضه بسعر أدنى من سعر المبيع. نعلم أن ذخيرته شحيحة للقيام بهذا الدور. وهو المشكلة العويصة التي يواجه. ويحرص على استبقاء ذخيرته لتوفير تمويل سلع أساسية، ولسداد ديون سيادية على الدولة اللبنانية أولها في آذار 2020.

لو سلّمنا بدعوى أن السوق تحدد أسعار الفوائد في لبنان، بيد أن مصرف لبنان كان صانع السوق فحسب. جفاف التدفقات النقدية، وعجز ميزان المدفوعات، مع عجز مالي متمادي بلا توقف، واضطرار الدولة إلى تمويله من المصارف ومصرف لبنان، عوامل رسّخت الحلقة المفرغة بين ركائز الاقتصاد الكلي من جهة، وبين تفلت السياسة المالية ومكابرة السياسة النقدية من جهة ثانية، لم تترك سعر الفائدة يعمل بشروط السوق الطبيعية. العجز المالي الذي استولد سيولة كامنة وكتلة نقدية كبيرة بالليرة اللبنانية مناوئة لتثبيت سعر الصرف. فبدلًا من امتصاص تلك السيولة والكتلة النقدية من خلال استثمارات مباشرة في الاقتصاد وبفوائد مواتية للنمو وكابحة التضخم، حصل العكس تمامًا. اقتضى العجز المالي المتمادي مزيدًا من التمويل بالدين الحكومي من الجهاز المصرفي وبفوائد مرتفعة. القول هنا أن السوق هي التي تحدد معدلات الفوائد، فيه الكثير من المبالغة. ويشبه إلى حدّ التبجح بقدرة مصرف لبنان على تثبيت سعر الصرف في كل الظروف.

منذ سنوات كان ارتفاع الفوائد لدينا على العملة المحلية والدولار الأميركي تبعًا لهدفين. استمرار تمويل عجز الدولة المالي بالفائدة المرتفعة على الليرة. وحاجة مصرف لبنان إلى فائدة مماثلة للحدّ من الطلب على الدولار الأميركي. وحين تراجعت القدرة على الاستدانة بالعملات الأجنبية أيضًا، وبدأ الضرع يجف من التدفقات النقدية، لجأنا إلى رفع الفوائد على الدولار الأميركي إلى معدلات قياسية. أُقصي القطاع الخاص عن النمو. ودخلنا في دوامة من عدم الاستقرار السياسي والشغور المؤسسي من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة. واستحالت الاصلاحات الاقتصادية والمالية. واستشرى الفساد والسرقات في كل مرفق من مرافق الدولة الذي يدرّ ايرادات للخزانة. إنكشف القطاع المصرفي الدائن على دولة مكشوفة وعارية من من مؤسسات تعمل. وتراجع تصنيف القطاع المالي والسيادي في وقت واحد. لا ديون الدولة بقيت صفرًا في لائحة المخاطر وسيولة جاهزة كما زُعم. ولا سياسة تثبيت سعر الصرف عادت قادرة على تثبيته. ولا المودع بات قادرًا على التصرف بودائعه أصلًا وفائدة. وبتنا عاجزين حتى عن تلقي الأموال قروضًا ميسّرة ومساعدات بارادة سياسية عربية ودولية. فالنظام السياسي الحَرون في وجه الاصلاح، هو وجه العملة الآخر لنموذج الريوع الاقتصادي والمالي.

إستحصاص السياسات والركائز
شهدها في الأزمة المالية 2008، التي اضطرت معها كبريات الاقتصادات العالمية إلى تفويض المصارف المركزية اتباع سياسات نقدية تيسيرية وغير تقليدية حؤولًا دون الانهيار الاقتصادي، وللخروج من الركود، أن فوضت السلطة السياسة المصارف المركزية تحقيق هدفين رئيسين. حفز الاقتصاد وتحقيق نمو وفرص عمل، وتضخم عند قرب 2 في المئة. وقد حصل ذلك من ضمن رؤية اقتصادية كلية منسقة. وتولت السلطة السياسية رقابة لصيقة للسياسات المالية والنقدية. ولمسار التفويض التي حصلت عليه المصارف المركزية والنتائج التي حققتها. عندنا لا رؤية اقتصادية. ولا رؤية مالية. ولا حتى مناقشة نيابية للسياسة النقدية. ولا تنسيق بين بين المؤسسات المولجة ركائز النمو وسياساته. فهبطنا مرّة واحدة. ولا نزال مصرّين على النهج نفسه، ورافضين تأليف حكومة بموجب الدستور، ومتمسكين بتوزيع الوزرات استحصاصًا بين قوى طائفية مرتهنة للخارج والاقليم. والناس تفتقر. واليأس ينتشر. إنكشفتم على الشعب. ولهذا كانت ثورته غير المسبوقة في تاريخ لبنان. وسيقتصّ منكم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024