"وباء" الصراعات السياسية يصيب غاز غزة بعد غاز لبنان

المدن - اقتصاد

الأحد 2021/02/28
شكلت موافقة إسرائيل على الاتفاقية الموقعة بين مصر وفلسطين لاستغلال الغاز في حقل "غزة مارين"، مفاجأة مدوية، لأنها جاءت بعد تعطيل استمر نحو 20 عاماً. ولكن المفاجأة الأكثر دوياً وإثارة للمرارة تلك المتعلقة باشتعال الخلاف بين حركتي فتح وحماس بشأن الاتفاقية، ما يهدد بتعطيل تنفيذها. فالاتفاقية تمت "من وراء ظهر أهل غزة ولم يشاركوا فيها"، قال عضو المكتب السياسي لحركة "حماس"، موسى أبو مرزوق. ليأتيه الرد صاعقاً من عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، حسين الشيخ بقوله إن "الاتفاقيات تتم بين دول وليس بين دول وفصائل"... "ودقي يا مزيكة" أهازيج المقاومة والممانعة، وألحان السلام وحل الدولتين، لعلها تخفي حقيقة التضحية بغاز غزة على مذبح الصراع بين فتح وحماس على السلطة والنفوذ والارتهان للخارج. وكأن أهل غزة أعلنوا الاستقلال عن أهل الضفة الغربية، أو كأن السلطة الفلسطينية صدقت أنها باتت دولة كاملة السيادة. ويبدو أن هذا النوع من الخلافات بات أشبه "بالوباء" في ضوء ما يحدث في ملف الغاز في لبنان وترسيم حدوده البحرية مع إسرائيل.

تقاطع المصالح
الحقيقة أن تعطيل اتفاقية استغلال حقل "غزة مارين" أشبه بجريمة بحق الشعب الفلسطيني، لأنها تشكل فرصة قد لا تتكرر. فهي تمت بفعل تقاطع مصالح ومعطيات متشابكة نوجزها في ما يلي:

مصلحة إسرائيلية
تواجه إسرائيل مشكلة مستعصية في تصدير الغاز، بدأت تؤثر سلباً على حماسة الشركات لمواصلة الاستثمار في حقولها النفطية. ولا حل أمامها سوى التصدير من خلال مصر التي تمتلك محطتين لتسييل الغاز. ولذلك وجدت نفسها مضطرة للرضوخ لضغط مصر التي ربطت اتفاقية إنشاء خط أنابيب تصدير الغاز من حقل ليفياتان، بالموافقة على تولي مصر من خلال شركة "إيغاس" استغلال حقل "غزة مارين" وتوريده مباشرة إلى محطة جنين لتوليد الطاقة الكهربائية (الفلسطينية)، ونقل الكميات الفائضة عبر خط أنابيب إلى مصر لتسييله وتصديره، وتحويل العوائد المالية مباشرة إلى الفلسطينيين، بدون المرور بالقنوات الإسرائيلية.

وتقاطع ذلك مع سبب آخر له علاقة بالانتخابات الإسرائيلية في آذار المقبل، إذ يراهن نتانياهو على الاتفاقية للفوز بحصة كبيرة من أصوات فلسطينيّي 1948. وفي السياق يمكن إضافة سبب يتعلق بالانتخابات الفلسطينية، إذ تعتبر مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية أن الاتفاقية ستساهم في إضعاف حظوظ حماس للفوز بغالبية المقاعد في قطاع غزة.

مصلحة مصرية
تحقق مصر من خلال اتفاقيتي تصدير حقل "لفياتان" وتشغيل حقل "غزة مارين"، جملة مكاسب أهمها: توفير إمدادات كافية من الغاز لتشغيل محطة دمياط، بعد التسوية التي تم التوصل إليها مطلع العام الحالي مع شركة يونيون فينوسا الإسبانية، والتي أدت إلى إعادة تشغيل المحطة بعد توقف دام ثماني سنوات. والأهم من ذلك أن الاتفاقية مع الفلسطينيين تقطع الطريق على تركيا للدخول على خط الغاز الفلسطيني، سواء من خلال المشاركة في الكونسورتيوم المالك لحقل "غزة مارين" والمكون من صندوق الاستثمار الفلسطيني وشركة اتحاد المقاولين  CCC. أو من خلال توقيع اتفاقية مع السلطة الفلسطينية أو حتى مع حركة حماس، مشابهة لتلك الموقعة مع ليبيا لخلق تماس حدودي بين المياه البحرية لقبرص التركية وغزة، مستندة في ذلك نصوص مطاطة في قانون البحار تتعلق بكيفية تحديد الجرف القاري. وشكلت هذه الأفكار محوراً رئيسياً في المحادثات بين تركيا ومسؤولين من السلطة الفلسطينية وآخرين، من حماس خلال زياراتهم إلى انقرة مؤخراً. وقد أثار ذلك غضب مصر، ترجم تحركاً فورياً ومكثفاً للمخابرات المصرية على خط المفاوضات مع إسرائيل ومع الفلسطينيين لاستغلال حقل "غزة مارين". وحركة حماس كانت على علم بكافة التفاصيل المتعلقة بالجهود المصرية. ولم يمر وقت طويل كي ينسى نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري زيارته للقاهرة في أكتوبر الماضي، بهدف امتصاص الغضب المصري على محادثاته في انقرة، حيث تطرق البحث مع المصريين إلى مسألة ترسيم الحدود البحرية ودخول مصر على خط استغلال حقل "غزة مارين".

إهدار 1.5 مليار دولار سنوياً
لتقدير حجم "الجريمة" التي ترتكب بإسم المقاومة والممانعة من جهة، وبإسم السلام والتطبيع من جهة أخرى، نشير إلى أن الفلسطينيين يعتمدون حالياً بنسبة 95 في المئة على إسرائيل في توفير احتياجاتهم من الطاقة، بفاتورة سنوية تقدر بحوالي 1.5 مليار دولار. ولتكتمل الصورة نشير إلى أنه تم في العام 2000 اكتشاف حقلين (مارين 1 ومارين 2)، تقدر احتياطاتهما بحوالي 1.5 تريليون قدم مكعب يمكن أن تغطي احتياجات قطاع غزة والضفة الغربية لمدة 15 عاماً، حسب معدلات الاستهلاك الحالية. علماً أن هناك حقلاً على الحدود الفاصلة بين مياه غزة وإسرائيل، وهو "ماري بي"، قامت إسرائيل باستنزافه بالكامل وإقفاله في العام 2012. وهناك دراسات حديثة تؤكد وجود أكثر من 8 حقول كبيرة للغاز في بحر غزة وعلى عمق لا يتجاوز 600 متراً. 

وللإضاءة على أهمية الاتفاقية التي قد تعطلها "نضالات المقاومين والمطبعين"، نذكر بنجاح إسرائيل بتعطيل كل محاولات استغلال حقول"غزة مارين" من قبل الكونسورتيوم الذي فاز بالامتياز عام 2000 والمكون من "بريتش غاز" البريطانية وشركة اتحاد المقاولين CCC وصندوق الاستثمار الفلسطيني، علماً أن شركة شل البريطانية اشترت حصة بريتش غاز مقابل 70 مليار دولار، على أساس وعد إسرائيلي بالسماح لها باستغلال الحقل. ولكن الوعد لم يتحقق، فاضطرت شل للخروج من المشروع في أبريل 2018، فقام صندوق الاستثمار الفلسطيني وشركة اتحاد المقاولين بزيادة حصتيهما إلى 55 في المئة موزعة مناصفة بينهما، على أن يتم بيع 45 في المئة إلى شركة عالمية لاحقاً، وهي الحصة التي تضع تركيا عينها عليها حالياَ أو على جزء منها على الأقل. 

والسؤال الكبير، إذا كان التعطيل يحقق مصالح إسرائيل، فإين مصلحة فلسطين في تعطيله وإهدار موارد مالية ضخمة وتضييع فرصة التخلص من الارتهان للهيمنة الإسرائيلية في مصادر الطاقة؟ وهل باتت موارد النفط والغاز من لبنان إلى فلسطين مجرد "سلعة رخيصة" في بازار الخلافات الإقليمية، ومجرد سلاح صدئ في أيدي المقاومين والمناضلين والإحزاب لتسجيل انتصارات وهمية على بعضهم بعضا؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024