لبنان في عالم الاقتصاد النقدي: جنّة لتبييض الأموال

علي نور الدين

الجمعة 2021/04/23
تفيد جميع الإحصاءات والأرقام المتوفرة أن البلاد تنزح تدريجيّاً نحو ما يعرف بالاقتصاد النقدي، أي الاقتصاد الذي يقوم على التبادلات الماليّة القائمة على النقد الورقي، من دون المرور بالنظام المالي الرسمي، إلا في حالات الحاجة القصوى.

المفارقة الأساسيّة هنا، هي أن المصارف نفسها كانت المتسبب الأوّل بهذه التطورات، ليس من خلال الأزمة التي تمر بها وحسب، بل أيضاً بسبب الإجراءات والمعالجات التي قامت بها، والتي تعمّدت إقصاء التبادلات الماليّة المحليّة عن النظام المصرفي. وإذا كانت المصارف اللبنانيّة تملك مصالحها واعتباراتها الخاصّة التي دفعتها لاعتماد هذه السياسة، فالأكيد أن هذا النوع من التوجهات يتناقض مع الدور الذي يفترض أن يلعبه النظام المصرفي في أي مجتمع، والذي يحث في العادة على مبدأ الشمول المالي، أي دمج جميع الفئات الاجتماعيّة في النظام المالي القائم، وليس إبعاد معظم التبادلات الماليّة عن هذا النظام. أما أخطر ما تنطوي عليه هذه التطورات، فهو تحويل البلاد إلى جنة لمبيّضي الأموال، والراغبين في إخفاء مصادر ثرواتهم. وهو ما يدفع لبنان نحو العزلة الماليّة عن العالم أكثر وأكثر. 

الحركة الماليّة باتت خارج المصارف
تشير أرقام جمعيّة المصارف إلى أنّ عدد الشيكات التي مرّت بغرف المقاصّة بين المصارف اللبنانيّة بالكاد تخطّى لغاية شهر شباط من هذا العام حدود 469 ألف شيك، مقارنة بنحو 1.47 مليون شيك في الفترة المماثلة من العام الماضي. أي أن عدد الشيكات الذي مرّ بغرف المقاصة انخفض إلى أقل من الثلث خلال عام واحد فقط. أما من ناحية القيمة، فمن الملاحظ أن قيمة الشيكات التي جرى تبادلها بالعملات الأجنبيّة انخفضت بين الفترتين من 8.02 مليار دولار أميركي إلى 2.83 مليار دولار فقط، أي أن قيمة هذه الشيكات انخفضت إلى نحو 35% من قيمتها السابقة فقط، فيما انخفضت قيمة الشيكات المتبادلة بالليرة اللبنانيّة من 4.5 مليار دولار إلى 2.11 مليار دولار فقط بين الفترتين.

المسألة الأكثر إثارة للانتباه في هذه الأرقام هي أن نسبة دولرة الشيكات، أي نسبة الشيكات المتداولة بالعملة الأجنبيّة، انخفضت أيضاً بين الفترتين من 64% إلى ما يقارب 57%، وهو ما يعني ارتفاع حصّة الشيكات المتداولة بالعملة المحليّة من إجمالي الشيكات، على حساب عدد الشيكات المتداولة بالعملات الأجنبيّة. فيما كان من اللافت أيضاً تراجع عدد الشيكات المرتجعة بنسبة هائلة بلغت 89%، ما يدل على اقتصار تبادل الشيكات على العمليات الضروريّة كحالات شراء العقارات، على حساب الشيكات المتداولة روتينيّاً للغايات التجاريّة العاديّة، والتي ترتفع فيها نسب الشيكات المرتجعة. مع العلم أن هذه الحقيقة يؤكدها أيضاً ارتفاع متوسّط قيمة الشيك الواحد في هذه التبادلات بنسبة 23%.

هذا ما جنته المصارف
عملياً، لا يمكن تفسير هذه الأرقام عبر إلقاء اللوم على فقدان الثقة بالمصارف فحسب، خصوصاً أن المصارف كانت تشهد خلال الفترة المماثلة من العام الماضي أزمة الثقة نفسها هذه من دون أن تنخفض تبادلات الشيكات إلى المستويات التي انخفضت إليها اليوم. ولذلك، يمكن القول اليوم أن ما جرى من خروج التبادلات الماليّة من النظام المصرفي نتج عن قرارات مصرفيّة مدروسة ومتعمّدة، جرى اتخاذها خلال الأشهر الماضية. وهي قرارات هدفت منذ البداية إلى إبعاد هذه التداولات نحو الاقتصاد النقدي، أي نحو التبادلات الماليّة الورقيّة. مع العلم أن جميع هذه الإجراءات ناقضت التعاميم التي أعلن عنها كل من المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف، بغياب أي تدخّل جدّي من قبل حاكم المصرف أو اللجنة.

من هذه القرارات على سبيل المثال، اتخاذ معظم المصارف إجراءات قضت بالامتناع عن قبول إيداع الشيكات في حساب عملائها، حتّى بالنسبة إلى الحسابات التي يستعملها أصحابها لغايات تجاريّة. علماً أن هذه النوع من القرارات طال الحسابات المفتوحة بالعملة المحليّة والدولار الأميركي على حد سواء. أما بعض المصارف الذي استمر بقبول الشيكات، فوضع قيود مشددة على استعمال السيولة الناتجة عن تحصيل الشيكات، من قبيل تجميد هذه السيولة لفترات تصل لغاية ستة أشهر، أو منع سحبها وفقاً للتعميم 151 إذا كانت بالعملات الأجنبيّة. مع الإشارة إلى أن منع سحب الودائع وفقاً للتعميم 151 يعني عملياً عدم إمكانيّة استعمالها نقداً بأي شكل من الأشكال، بالنظر إلى انعدام القدرة على سحبها بالعملة الأجنبيّة.

في الواقع، ثمّة تعميم أصدرته لجنة الرقابة على المصارف منذ شهر تشرين الأوّل الماضي، حمل الرقم 20/2020، وقضى بمنع "تجميد قيمة الشيكات المودعة من العملاء و/أو قيمة التحاويل الواردة إلى حساباتهم"، كما قضى التعميم بالالتزام بما هو وارد في العقود، لجهة عدم الامتناع عن إيداع الشيكات في الحسابات المصرفيّة إلا لأسباب مشروعة تتعلّق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. ورغم النبرة الحاسمة التي حملها التعميم في ذلك الوقت، وارتكازه على قرارات سابقة أصدرها المصرف المركزي، لم يمتثل أي من المصارف لمضمونه، من دون أن تحرّك اللجنة ساكناً، لا بل تجاهلت اللجنة طوال الأشهر الماضية جميع الاعتراضات والشكاوى التي أشارت إلى هذا النوع من المخالفات.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن المصارف اتخذت خطوات أخرى صبّت أيضاً في اتجاه تعزيز الاقتصاد النقدي على حساب التداولات داخل النظام المالي، كفرض عمولات مفاجئة وغير منطقيّة على الحسابات الجاريّة الموجودة لديها، والتضييق على أصحاب الحسابات لإقفالها تدريجيّاً. لا بل بلغ الأمر في بعض المصارف إلى طلب وجود أرصدة مرتفعة تتجاوز 50 ألف دولار للقبول بتحريك هذه الحسابات أو استعمالها لتلقي التحويلات أو إصدار الشيكات. أما النتيجة البديهيّة لكل هذه الإجراءات، فكانت موجة غير مسبوقة من إقفال الحسابات المصرفيّة، واعتماد أصحابها على التعاملات النقديّة في أعمالهم التجاريّة.

لماذا تطرد المصارف عملائها؟
تتعدد الأسباب التي تدفع المصارف للجوء لهذا النوع من الإجراءات، التي تصب في المحصلة في سياق طرد الزبائن وتقليص تعاملاتهم معها. السبب الأساسي هو رغبة كل مصرف بتقليص حجم التزاماته بالعملات الأجنبيّة تدريجيّاً إلى أقصى حد، بهدف تقليص حجم المؤونات المطلوب تكوينها مقابل هذه الودائع خلال المرحلة المقبلة. ولذلك، لم يعد لدى أي مصرف مصلحة في استقبال الشيكات أو التحويلات، لكون ذلك سيعني تلقائياً تضخيم حجم الودائع بدل تخفيضها. ولهذا السبب بالتحديد، باتت المصارف تستسهل إقفال الحسابات المصرفيّة الموجودة لديها من طرف واحد، عند حصول أي مشادة أو نزاع مع العملاء، حتى لو تمتع العميل بأرصدة وازنة، مع تسليم العميل قيمة ودائعه بموجب شيك مصرفي. علماً أن بعض المصارف اتخذت قرارات من هذا القبيل لمجرّد قيام العملاء بكتابة تعليقات اعتراضيّة على وسائل التواصل الاجتماعي.

السبب الآخر الذي يدفع المصارف لطرد عملائها يتعلّق بمحاولتها تخفيض طلب العملاء على السيولة النقديّة، بعد أن أصبح مصرف لبنان يقنن حجم السيولة النقديّة التي يسلمها دوريّاً للمصارف. فعملياً، لم يعد لدى المصارف مصلحة في تلقي الشيكات، سواء بالعملة الأجنبيّة أو بالليرة اللبنانيّة، لكون تحصيل هذه الشيكات في حسابات عملائها سيعني سحبها نقداً في المستقبل، واستنزاف السيولة النقديّة الموجودة لديها. باختصار، أصبح التضييق على عمليات إيداع الشيكات في النظام المصرفي نوع من التشاطر الذي يمارسه كل مصرف، لإدارة سيولته وتخفيف الطلب عليها.

عالم تبييض الأموال
الدول التي يزدهر فيها الاقتصاد النقدي، والتي تطبّع التداول بالنقد الورقي لإتمام الصفقات التجاريّة، تصبح تلقائيّاً جنة من جنان تبييض الأموال، خصوصاً أن هذا النمط من التداولات يسهّل لاحقاً تدوير الأموال غير المشروعة وإدخالها في العمليات التجاريّة الشرعيّة من دون قيود النظام المالي المعروفة. وهذا النوع من الاقتصادات، غالباً ما يثير هواجس المصارف التجاريّة والمركزيّة الأجنبيّة، وحكومات الدول الغربيّة، ما يهدد مع الوقت بعزل البلاد تدريجياً عن النظام المالي العالمي. ولعل أحد أسباب خوف المصارف الأجنبيّة المراسلة من التعامل مع المصارف اللبنانيّة هو تحديداً ارتفاع مخاطر تبييض الأموال في لبنان اليوم، نتيجة السحوبات والإيداعات النقديّة الكبيرة التي تتم بالتوازي مع التحويلات الصادرة والواردة، نتيجة اعتماد جميع التجار على النقد الورقي في تعاملاتهم داخل لبنان.

ببساطة، عادت البلاد عشرات السنين الضوئيّة إلى الوراء، عبر الرجوع إلى زمن ما قبل المصارف. أما المصارف نفسها، فلم تعد أكثر من كيانات مليئة بالخسائر وغير قادرة على ممارسة أبسط الأدوار المطلوبة منها كقطاع مالي، فيما بات همها الأساسي هو أن توفّق ما بين بقاؤها على قيد الحياة وفقدانها لمقومات الحياة المصرفيّة الطبيعيّة. أما الخوف اليوم، فهو من تداعيات هذا الواقع، وتحديداً من جهة مخاطر الدخول في مرحلة العزلة الماليّة الدوليّة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024