علامَ تبنى توقعات الموازنة؟

عصام الجردي

الجمعة 2019/06/14
يريد المواطن من مجلس النواب، ولجنة المال والموازنة النياية الكثير من العمل والقليل من التصريحات الفضفاضة. نقاشات مشروع قانون موازنة 2019، في غياب الرؤية الاقتصادية الشاملة للدولة، والتنسيق بين وزاراتها وأجهزتها التنفيذية، يضع مشروع القانون في مكان آخر، لا علاقة له بطبيعة الموازنة ومحدداتها وأهدافها. وفي بيئة سياسية موبوءة بالمنافع الحزبية الضيقة.

اللغط والفوضى
ينعكس ذلك بوضوح في جلسات لجنة المال والموازنة النيابية. وحين ينتقل مشروع القانون إلى مجلس النواب يختلط الحابل بالنابل. الرؤية الاقتصادية ليست حاضرة، يعني البوصلة مفقودة. فيتحول المجلس سجالاً وعنتريات متلفزة، للحصول على مكاسب نفعية وسياسية لم تُتح في مجلس الوزراء. وتغدو الموازنة بعد إقرارها كناية عن دفتر حسابات لجمع الأرقام وطرحها. محددات الموازنة شمولها، ووحدتها، وسنويتها. والتوازن المالي بين الإيرادات، من خلال الضرائب والرسوم وعائدات الدولة من حيازاتها وبين النفقات. لا اعتمادات من دون مصدر تمويل. وأهداف الموازنة اقتصادية على صلة مباشرة بالنمو والناتج. واجتماعية لتمويل برامج تستهدف الفئات الأشد عوزاً والاستقرار الاجتماعي. والفيصل قانون موازنة يستوحي الدستور في كل مندرجات النفقات والجباية والرقابة. وقطع الحساب مبدأٌ وشرطٌ.  لذلك يتم الخلط في بنود مشروع قانون الموازنة بين محددات موازنة لسنة مالية وبين أهدافها المتوسطة المدى والبعيدة. ويتم الزجّ بمواد تشريعية لا تأتلف مع الموازنة ويمكن أن تأتي في قوانين أخرى مستقلة.

من مسار مناقشات لجنة المال والموازنة نستشف فجوة غياب الرؤية الاقتصادية نفسها وتنسيق السياسات الاقتصادية الكُلية. وهو ما حصل في مناقشات مجلس الوزراء. من يكلّف ضريبة؟ ومن أين تأتي الإيرادات؟ أي وزارة تخفض نفقاتها؟ ولأي وزارة تزاد؟ الرؤية الاقتصادية والاجتماعية المقترنة بقاعدة معلومات من شأنها تيسير بناء الموازنة وتقديراتها. أهمها الحسابات القومية، وميزان المدفوعات، والتدفقات النقدية، وسوق العمل، وإسهام الدولة في البرامج الاجتماعية، حسب الحاجات وسواها. بعدها تأتي السياسات الموحدة والمنسّقة والنزيهة في مؤسسات المال والنقد والاقتصاد. من دون ذلك عبثاً نقول موازنة. وطبيعي كل هذا اللغط والفوضى في سياق مناقشات مشروع قانون الموازنة.

الثقب الأسود
اقتراح وزارة الاقتصاد والتجارة فرض رسوم على الاستيراد يعارضه لوبي التجار في الحكومة ومجلس النواب ويؤيده الفريق الصناعي. القروض المدعومة صلاحية مصرف لبنان أم مجلس الوزراء؟ الضريبة على معاشات تقاعد العسكريين تتمسك به وزارة المال، وتعارضه قوى سياسية ووزراء ونواب. الأمر نفسه في تقاعد القضاة ومكاسبهم الوظيفية. وأساتذة الجامعة اللبنانية. معارضة خفض سقف ضريبة القيمة المضافة لتشمل المؤسسات التي يبلغ حجم أعمالها سنوياً 50 مليون ليرة لبنانية بدلاً من 100 مليون، بدعوى الضرر الذي يلحقه بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. لكن، من يراقب الإلتفاف على الضريبة بتفريع المؤسسات لصاحب عمل واحد أو لأكثر، لخفض حجم الأعمال والتهرب من الضريبة؟

بيد أن الثقب الأسود الكبير في مشروع قانون موازنة 2019، يكمن في الاعتماد على تمويل هائل من 11 تريليون ليرة بفائدة 1 في المئة لخفض قرابة 500 مليون دولار أميركي من العجز. مصرف لبنان أبلغ الحكومة عدم قدرة المصارف على الاكتتاب. نقل المهمة إلى مصرف لبنان شديد الخطورة على التضخم، وسعر الصرف وميزانية مصرف لبنان. ويستولد ذخيرة ساخنة ضد الليرة. وفي هذا المكان تقع أيضاً معدلات  الفوائد التي تتحرك على وقع الحاجة إلى تمويل العجز وسندات الخزانة. والحرص على توفير فائدة محفزة لاستدامة التمويل، ما استدام العجز، آفة تضرب في عمق البيئة الاستثمارية. وتحد من النمو وزيادة حجم الناتج المحلي المعياري لقياس حجم الدين إلى الناتج الذي يثقل على تصنيف لبنان السيادي وتصنيف المصارف الائتماني. والنتيجة واحدة: زيادة تكلفة الدين العام. وحواجز جديدة أمام المصارف في علاقاتها مع المصارف الدولية المراسلة. كيف نوفق بين سياسة مالية لتأمين استمرارية قيام الدولة بالتزاماتها من جهة، وبين سياسة نقدية تهدف إلى استقرار سعر الصرف من جهة ثانية؟ الرؤية الاقتصادية وتنسيق السياسات والقرار السياسي شرط أساسي لدرء المخاطر. ولتقديرات موازنة قابلة للتحقق. العجب ألاً نرى نقاشاً في هذا المعنى من حكومة رجال أعمال ومستشاريهم، ومن مجلس نواب على النحو والشاكلة. كلٌ "نعمل لأجلنا". من يعمل لمصلحة لبنان واقتصاده وناسه؟

تضارب المؤسسات
نسينا. "لا صوت يعلو فوق صوت سيدر". نريد سيدر وأخواتها. هل البيئة السياسية صالحة لتلزيم مشاريع البنية التحتية، وتنفيذها بفاعلية وشفافية؟ وبمقتضيات الدستور والقوانين؟ خطة الكهرباء تقول غير ذلك. التنسيق مفقود حتى بين الجهات المكلفة تنفيذ المشاريع في البنى التحتية وأشغال الصيانة الدائمة التي تحتاجها. خصوصاً بين مجلس الإنماء والإعمار وبين الوزارت المعنية. ينسحب ذلك على البلديات وأعمال الصيانة المكلفة إياها في النطاق البلدي. الدليل أعمال الحفريات المتكررة في أكثر من موقع في الطرق، والنقل، والكهرباء، والمياه، والصرف الصحي، والهاتف. ليس على وجه الحصر. تكرار عمليات الحفر في الموقع نفسه يرهق المواطن. ويستنفد الوقت المتاح للعمل والإنتاج. ويزيد حجم الفاقد في القطاع العام. الأسوأ، الأضرار المتبادلة التي تلحق بالإنشاءات أثناء عمليات الحفر المتكررة. وتتطلب إزالة الأعطال من جديد ونفقات جديدة. ماذا يحتاج الأمر؟ مجرد برنامج واضح للمشاريع والأشغال وأعمال الصيانة ورزنامة مواعيد. عكسه حاصل. هذا الأمر يعيشه المواطن يومياً في العاصمة والمدن الكبرى وكل القرى في لبنان.

حين ترصد نفقات تنفيذ المشاريع والصيانة إنما لتغطي تكلفتها مرة واحدة. فخلا تكلفة الصيانة الطارئة لا تُرصد نفقات لتغطية التضارب في أعمال المؤسسات ومرافق خدمات المؤسسات الرسمية والمصالح المستقلة. الأمر ينسحب على تعهدات مشاريع القطاع الخاص التي تشوبها أحايين كثيرة عيوب في مرحلة التنفيذ. كأن يهمل المتعهد في سياق تنفيذ المشروع مدى الضرر اللاحق بمنشآت ومرافق خدمية عامة متاخمة لموقع التزامه. في أي خانة نصنف هذه الممارسة والفوضى؟ هو إهدار للمال العام سهواً أم عمداّ. وفساد مقنّع يتحول سافراً. والنتيجة ذاتها. زيادة في العجز وزيادة في الدين العام.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024