إصلاحٌ من فكّ التِنين

عصام الجردي

الإثنين 2019/02/11
هل يمكن للحكومة أن تتصدى لورشة الإصلاحات المالية والاقتصادية، التي التزمها بيان الحكومة الوزاري، في ظل إشكال بنيوي يعانيه لبنان، ويتعلق بتعطيل النظام البرلماني الديموقراطي، الذي أكدت عليه مقدمة الدستور اللبناني؟ وهل يمكن إنجاز الإصلاحات من خلال أوعية النظام البرلماني الديموقراطي ومؤسساته الدستورية، التي حدّد الدستور سلطاتها، وفصَل بينها في سياق ممارستها مسؤولياتها؟ السؤال الأهم، هل يمكن الفصل بين بنود البيان الوزاري المتعلقة بالإصلاحات المالية والاقتصادية، وبين البنود المتصلة بالسياسة الخارجية والنأي بالنفس؟ البند الذي بات تسويقه محلياً وفي المحافل الخارجية مجرد سخف ومهزلة.


لا حول ولا قوة
كل تلك الأسئلة أمام استعصاء حقيقي، بمقدار كبير من الرياء السياسي. لا أحد يجهر بوجوب تعديل الدستور، طالما أن تجاوزه المستمر والسافر يغني عن التعديل. الأمر ماثل بجلاء منذ الشغور الرئاسي، وتعطيل دعوة مجلس النواب لانتخاب رئيس للجمهورية، قبل ضمان وصول العماد ميشال عون إلى الرئاسة كما أراد "حزب الله" وأصرّ. إنتاج الحكومة تعذّر وفقاً للدستور بارادة "حزب الله" أيضاً وجاء بتسوية سياسية قسرية. والحزب ينشر قواته في سوريا والإقليم، جزءاً من "حلف ممانع" بقيادة إيران، وفي ظل سياسة النأي بالنفس. وإيران محاصرة بالعقوبات الاقتصادية من رجل في البيت الأبيض مصاب بجنون "الدولة الأقوى"، ولا يتردد في تأنيب حلفائه الأقربين ويعاقبهم. ويقفل خزانة واشنطن أكثر من شهر لبناء جدار الفصل مع المكسيك وعلى نفقتها. ولبنان لا حول ولا قوة. وبيان الحكومة الوزاري استسلم تماماً للانكشاف الخارجي في السياسة والأمن السيادين. وفي المال وخطط الإصلاح، يأتيان من مؤتمرات خارجية وماكينزي أند كومباني وصندوق النقد والمصرف الدوليين. بينما معضلة عجز الموازنة والدين  العام الأشد  تعقيداً، مرتبطة بكونها ديوناً للمصارف المحلية ومدخرات اللبنانيين. والفساد السياسي والإداري، وأزمات الخدمات الأساسية كلها من صناعة محلية. وقد تراكمت عقوداً في ظل خرق الدستور وتعطيل مؤسساته، لازمة لاستمرار نظام سياسي يقول الدستور إنه برلماني ديموقراطي. وبات عاطلاً من العمل. وتعلن الحكومة اليوم في بيانها الوزاري إنها عازمة على تنفيذ إصلاحات في العمق، معادية لنظام سياسي أنتجها في الأصل واعتاش عليها. وقد استفاق على شفا الانهيار المالي، والمآسي الاجتماعية، والضغط الدولي، ليصلح الحال ويطلق النار على نفسه! وعينه على تعهدات مؤتمر سيدر، و5 مليارات من شراكة القطاع الخاص اللبناني لتنفيذ خطة إعمار البنى التحتية.

الشروط السياسية
لن ينساب المال بسهولة هذه المرة. ولا أحد يريد مقاربة الحقيقة في ملف سيدر، وفي وغيره من الملفات المتصلة بالقروض الميسّرة والدعم المالي للبنان. تماماً كما حصل في مؤتمرات روما لدعم الجيش والقوى الأمنية، ومؤتمرات بروكسل ولندن لدعم النازحين السوريين إلى لبنان. الأموال لن تأتي من خارج حزمة إصلاحية مالية واقتصادية، مشكولة بشروط سياسية لها علاقة بسياسة لبنان الخارجية، وبالنأي بالنفس فعلياً، واستعادة سلطة الدولة على أراضيها. لنمحّص قليلاً في البيان الأخير المفاجئ لمجلس الأمن عن لبنان. دعا إلى العمل على تطبيق القرارات الدولية، بما في ذلك القراران 1559 و1701. و"التطبيق الملموس" لسياسة النأي بالنفس عن أي نزاعات خارجية. والتزام "نزع سلاح كل الجماعات المسلحة في البلاد". وذكّر باعلان بعبدا 2012. والاستراتيجيا الدفاعية. وقرارات مؤتمرات روما وبروكسل. بعد ذلك حضّ المجلس على التزام تعهدات مؤتمر سيدر حيال مكافحة الفساد وتعزيز الحوكمة والمساءلة.

هذا انكشاف كامل على الخارج سياسي ومالي قاله مجلس الأمن الدولي. وما نقِصه كان ملف النفايات ومطمر برج حمود والكوستابرافا والمسالخ والمقالع! ولا نذكر موقفاً مشابهاً لمجلس الأمن الدولي من أي دولة أخرى عضواً في الأمم المتحدة. مع أكثر من 11 مليار دولار أميركي قروضاً ميسّرة من سيدر، و5 مليارات من شراكة القطاعين العام والخاص، و4 مليارات كانت أُقرت لصيانة البنى التحتية قبل سيدر، نحن في صدد خطة إعمارية من نحو 20 مليار دولار أميركي، كتبنا عنها في حينها، وقلنا إنها خطة بلا رؤية اقتصادية. الحكومة السابقة قدّمت ورقة ماكينزي أند كومباني إلى الرأي العام "رؤية اقتصادية". وهي لا تختلف في العام كثيراً عن الإصلاحات التي اشترطها مؤتمر سيدر للحصول على التعهدات المالية. والرؤية اقتصادية واجتماعية تكون. وترتبط بالنمو المستدام وقابلية ربطه بتنمية في المديين المتوسط والبعيد الأجل. اختصارها بلائحة مطالب خفض العجز وزيادة الإيرادات لا يكفي. بل أين نخفض العجز ومن أي بنود الموازنة. وأين نقرر عجزاً له صفة الأمن الاجتماعي والصحي وتنمية الموارد والتعليم الرسمي وخلافه. كيف نعيد توزيع الدعم على القطاعات المنتجة. من يستأهل الدعم من تلك القطاعات. وربط أي دعم لتلك القطاعات خصوصاً الصناعية منها بتشغيل اليد العاملة اللبنانية وخلق فرص العمل. لا يمكن تكبير إيرادات الموازنة من الصحن الضريبي الراهن. بل من إعادة توزيع الثروة العادل من مطارح المال والثروة. ويجب ألاّ نفهم من توسيع التكليف سوى شموله مؤسسات لا تزال خارج التكليف الضريبي. وقطاعات واسعة من الاقتصاد الموازي الذي لاسجل تجارياً له ولا رقماً ضريبياً. ويقدر بنحو 35 في المئة من الاقتصاد الشرعي. أما استسهال ضريبة القيمة المضافة لسهولة جبايتها سلفاً وتحميلها للمستهلك النهائي، وفرض المزيد من الضرائب غير المباشرة، والرسوم المواربة في منزلة الضريبة، فترّهات لا يستقيم اصلاح بها، وتفاقِم التوتر المعيشي والاجتماعي. والكلام يطول..

الامتيازات النفعية
لبنان ليس بلداً فقيراً. اللبنانيون فقراء. نحن في الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل الفردي فوق 10 آلاف دولار اميركي سنوياً. هذه بحسب المصرف الدولي على قاعدة أطلس بقسمة الناتج المحلي على عدد السكان. هكذا "دوكما" فيصبح شهيد كرامته جورج زريق "شريكاً لأبو رخوصة"! وبحسب المصرف الدولي ومؤسسات دولية أخرى، ففاقد الاقتصاد اللبناني خارج التشغيل يقدّر بنحو 20 في المئة. مشكلتنا بالنظام السياسي الأوليغارشي. هو نفسه الآن يريد تنفيذ أكبر حزمة اصلاح واحدة بأعلى تكلفة في وقت واحد، ويرفض تقديم أي تنازل عن امتيازاته النفعية الزبائنية، ويعطّل الدستور والمؤسسات في بلد بنظام برلماني ديموقراطي.

طالبنا كثيراً بحكومة تشبهاً ببلاد الله الواسعة. الناس ينتظرون وسيعطونها فترة سماح تطول أو تقصُر لا نعلم. ما نعلمه أن النظام السياسي لن يتخلى عن امتيازاته بسهولة، وان الإصلاحات لا ترتجى من فكّ التنين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024