تدمرون الضمان.. تحمّلوا المسؤولية

عصام الجردي

الإثنين 2019/06/10

فقاعة دين الدولة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي كانت تتشكل منذ سنوات، ولم تعرها الحكومات المتعاقبة ومجالس النواب أهمية. أولاً لأن الحقوق المتوجبة الإداء لا مجال للزجّ بها في زواريب الطائفة والمذهب وسفاسف رجال السياسية اليومية المشينة. ثانياً، لأن السلطات لا تعير أهمية لمؤسسة طوع يدها إدارة ومالاً ومنافع مستقطعة. فما الذي استجدّ الآن كي يطرح مركز الصندوق المالي مادة للنقاش؟ قيل أن ما ورد في مشروع قانون الموازنة قبل تعديله، وكان يرمي إلى اعتماد فوائد على توظيفات الصندوق في سندات الخزانة أقل من فوائد السوق. وقد بلغ دين الدولة للصندوق أكثر من ثلاثة تريليونات ليرة لبنانية (ما يفوق ملياري دولار أميركي).

الحق الممتاز
في الواقع، هذا رأس أكمة الأزمة المالية في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. فالوضع المالي في الصندوق ليس واضحاً وقد يكون أفدح. لأن اللجنة المالية المعنية المباشرة بتوظيفات الصندوق خارج الخدمة. واللجنة الفنية المكلفة وضع تقارير عن الموازنة والحسابات المالية وضعها ليس قانونياً من رئيس يساءل قضائياً، وعضوين غير موجودين. وكلاهما اللجنة المالية واللجنة الفنية يعينان من مجلس الوزراء. والمجلس ليس على عجلة من أمره. فاللجنة المالية لها حق رسم خريطة توظيفات الصندوق كما سبقت الإشارة. يعني احتمالاً أن رأيها قد يكون مغايراً لرأي الدولة في توظيف أموال الصندوق والعائد عليها. وزارة المال الآمر الناهي في هذا الشأن. واللجنة االفنية هي التي تحيل ميزانية الصندوق إلى ديوان المحاسبة للتدقيق ومعها قطوع الحسابات.

دين الدولة للصندوق الوطني للضمان الإجتماعي حق ممتاز للمضمونين ومتوجب الأداء على الدولة. مع ذلك، فهذا الدين ليس واضحاً تفصيلاً، حتى لمجلس الإدارة المنقوص العضوية هو الآخر، والمشوب بخلل في التمثيل بعد استقالة البعض واستنكاف عدد من ممثلي أصحاب العمل عن حضور الجلسات. ذلك أن النصاب القانوني لجلسات المجلس لا تبنى على العدد. إنما على صحة التمثيل الثلاثي لفرقاء مجلس الإدارة من أصحاب عمل وعمال ودولة. الجزء الأساس من دين الدولة يعود إلى عدم سدادها حصتها في فرع المرض والأمومة البالغ 25 في المئة من نفقات الفرع. والثاني، عدم سدادها اشتراكاتها بصفتها صاحب عمل عن المضمونين لديها الخاضعين لقانون العمل. لكن هذه ليست كل الديون المتوجبة للصندوق. هناك اشتراكات أصحاب العمل لفرع تعويض نهاية الخدمة. وعلى جاري العادة في تحصيل ضريبة الدخل للخزانة، يتم إعفاء المتخلفين عن السداد من غرامات التأخير عن سداد الإشتراكات. وصل الأمر في مشروع موازنة 2017 أن تضمنت اقتراحاً بإعفاء أصحاب الأعمال من شرط الحصول على براءة الذمة من الصندوق. وهي الوسيلة الوحيدة المتبقية لتحصيل ديونه. ثم عادت الحكومة السابقة وألغت المادة المعنية من مشروع القانون. وتعهدت في مادة أخرى تقسيط ديون الدولة ولم تفعل. كررت ذلك في موازنة 2018 ولم تفعل وعادت لتكرر الأمر في مشروع موازنة 2019. ولن تفعل. هكذا تتصرف الدولة ومؤسساتها الدستورية مع مؤسسة ضامنة لنحو 700 ألف من اللبنانيين، وزهاء 800 ألف عدد المستفيدين الإجمالي على العاتق.

مخالفات صارخة
حين وضع المشترع حصة للدولة لتمويل فرع ضمان المرض والأمومة، إنما توخى مسألتين أساسيتين. الأولى، الإسهام في في شبكة التأمينات الصحية للمضمونين، والتوازن المالي للفرع في ضوء تجارب دول عدة تعاني برامجها الصحية عجوزاً مالية.  والثانية، شكل من أشكال توزيع الثروة يتم من خلال موازنة عامة ممولة أصلاً من المكلّف اللبناني واللبنانيين. علماً، إن الطابع الإدخاري لتمويل الصندوق من خلال الإشتراكات المقتبس من النظام الفرنسي، قد تجاوزته دول أوروبية عدة، لاسيما السكندنافية التي تمول شبكة التأمينات الصحية والاجتماعية من خلال ضريبة خاصة.

الدولة لم تكتفِ بعدم تطبيق القانون وسداد موجباتها لفرع ضمان المرض والأمومة، بل وأسهمت في الإعتداء على فرع تعويض نهاية الخدمة بأن سمحت بموافقة سلطة الوصاية ووزارء العمل، بالسحب من تعويض نهاية الخدمة لتغطية جزء من عجز ضمان المرض والأمومة. كانت هذه مخالفة صارخة  لقانون الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي نصّ على الإستقلال المالي بين الفروع، وعدم ربط التقديمات للمضمونين باشتراكات أصحاب العمل. وترك مهمة تأمين سداد الإشتراكات لإدارة الصندوق. وهما ركيزتان من أهم الركائز التي وضعها المشترع. الأولى، كل فرع من الفروع يمول نفسه ويؤدي واجباته المحددة للمضمون. والثانية، ذات أهمية بالغة، لكونها جاءت خطوة متقدمة على بعض نصوص قانون العمل اللبناني الصادر في 1946، لتنظيم علاقات العمل، وضمان حقوق العاملين بأجر وتعويضاتهم، للحد من اضطراب العلاقات بين العامل وبين صاحب العمل. ونحسب أن فلسفة فؤاد شهاب الذي كان الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي واحداً من إنجازاته الكثيرة لبناء دولة تليق بالمواطن ويليق بها، اعتبرت العامل الطرف الأضعف في المعادلة. ولا بد من حمايته بالقانون من جهة، وتأمين الاستقرار الاجتماعي بين الفريقين وسيلة أمثل لزيادة الإنتاج، والأمن الإجتماعي من جهة ثانية. وقد أخرج الضمان حقوق العامل من نطاق الإعانة والمساعدات الاجتماعية إلى ضمانة مؤسسية للحماية الاجتماعية والتكافل المجتمعي.

الأمن الاجتماعي
الاشتراكات هي اعتراف من الدولة بحق المضمونين وتعويض نهاية الخدمة. عليها بني نظام الإدخار في الصندوق. من حسناته ضمان حقوق المضمون. الانتساب إلى الصندوق هو عقد بين العامل بالأجر وبين الدولة. وقد خوّل القانون مجلس الوزراء وسلطة الوصاية صلاحيات إدارة الصندوق وتوازنه المالي وتحقيق أهدافه الاجتماعية. ولا مهرب للدولة بكل سلطاتها من تحمل مسؤولياتها في هذه القضية الوطنية التي تمسّ نحو مليون لبناني وتهدد الأمن الإجتماعي والوطني. مجلس الوزراء هو الذي يحدد بمرسوم الكسب الخاضع للاشتراكات والحد الأدنى للأجر الخاضع للاشتراكات. يعين المدير العام، واللجنة الفنية واللجنة المالية ويصادق على مجلس الادارة. وللعمال فيه أعضاء عشرة. في صرف النظر عن أهلية هؤلاء وتدخل الدولة في تعيينهم، لكن الأمر أحد جوانب العقد مع الدولة. واعتراف بحق العمال في رقابة أموالهم وحقوقهم، واستثمارها في المجالات الاجتماعية الكثيرة التي حددها قانون الصندوق. الدولة ليست مطالبة بسداد مستحقات الديون للصندوق وحسب، بل وجباية أموال الصندوق وحراستها إلى حين استحقاقها وسدادها لأصحابها.

هذه هي المؤسسة الإجتماعية الوحيدة التي يدمرها السياسيون منذ سنوات. ليتحملوا المسؤولية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024