العالم يدرس تجربة لبنان وسعر الدولار: فريدٌ من نوعه

علي نور الدين

الأحد 2021/05/02
منذ التسعينات، ملأت الصحافة المحليّة أخبار التقارير والجوائز التي تغنّت بنجاح لبنان وحاكم مصرفه المركزي في تثبيت سعر صرف الليرة، والحفاظ على استقرار سوق القطع. بالإضافة إلى ثبات النظام المصرفي ومتانته. اليوم، انقلبت الآية، وصار لبنان نموذجاً من نماذج فشل السياسة النقديّة والماليّة، التي تدرسها التقارير الماليّة العالميّة وتقرأ في تجربتها، وتحذّر العالم من تكرار أخطائها. وعند مقارنة الدول المتعثرة وفقاً للمؤشرات التي تعكس فشل سياساتها الاقتصاديّة، بات لبنان يحل دائماً في الطليعة، أو في إحدى المرتبات الثلاث الأولى عالميّاً على الأقل، كما هو الحال عند مقارنة الدول على أساس معدلات التضخّم، أو تراجع سعر صرف العملة المحليّة، أو تنامي حجم الدين العام قياساً بالناتج المحلي.

الجديد اليوم، هو حلول لبنان في المرتبة الأولى عالميّاً من ناحية الفارق بين أسعار الصرف المتعددة. وهو ما أظهرته دراسة أعدها معهد التمويل الدولي حول تباين أسعار الصرف، ومستوى الاختلاف بينها في جميع الدول التي تشهد هذه الظاهرة. أما حساسيّة هذا المؤشّر بالتحديد، فتكمن في ما يعكسه من فوضى تشهدها سوق القطع اللبنانيّة، مقارنةً بالدول الأخرى التي تشهد أزمات متعلّقة بسعر صرف عملاتها المحليّة، كما يعكس هذا المؤشّر فشل السياسة النقديّة في لبنان التي يفترض أن تقلّص مستوى التباين بين أسعار الصرف المتعددة هذه. علماً أن حدوث هذا التباين في أسعار الصرف، يعني تلقائيّاً وجود حالة من عدم الانتظام والفوضى في سوق القطع والنظام المالي، فيما يؤشّر الفارق بين أسعار الصرف إلى حدّة المشكلة واتساع نطاقها.

لبنان الأوّل عالمياً: بنسبة 720%
دراسة معهد التمويل الدولي تناولت 12 دولة حول العالم، تشهد حاليّاً ظاهرة تعدد أسعار الصرف، ما بين سعر صرف فعلي في السوق الموازية، وأسعار صرف رسميّة متعددة، يتم استعمالها لغايات مختلفة كاحتساب الضرائب ودعم الاستيراد وغيرها. لائحة الدول هذه شملت: لبنان وتركمانستان وإيران وسوريا والجزائر والأرجنتين ونيجيريا وزيمبابوي وأنغولا ومصر والسودان وأوزبكستان. وحسب التقرير، فالمسألة المشتركة بين كل هذه الدول هي فشلها في تطبيق سلة من الإصلاحات الماليّة الشاملة، التي تكفل تناسق البرامج الاقتصاديّة مع أنظمة القطع والسياسات النقديّة، بالإضافة إلى فقدان الثقة بالعملة المحليّة، وغياب الاستقرار السياسي والمالي.

ولقياس حجم هذه الظاهرة في كل بلد، صنّفت الدراسة هذه البلدان وفقاً لنسبة الفارق بين سعر الصرف الرسمي وسعر صرف السوق الموازية. وحسب هذا التصنيف حلّ لبنان أولاً، حين فاق سعر صرف السوق الموازية سعر الصرف الرسمي بنسبة 720%، وهي النسبة الأعلى على الإطلاق عالميّاً. فيما حلّت بعد لبنان في الدرجة الثانية تركمانستان بنسبة 520%، ومن ثم إيران بنسبة 490%، وبعدها سوريا بنسبة 190%. أما الدول الأخرى فسجّلت نسب بلغت 140% بالنسبة للجزائر، و65% للأرجنتين، فيما تراوحت النسب بين 17% و30% بالنسبة إلى نيجيريا وزيمبابوي وأنغولا.

دروس للدول الأخرى
فشل السياسة النقديّة في البلدان التي تتعدد فيها أسعار الصرف ويتوسّع الفارق بينها، وفي طليعتها لبنان، بات مصدراً لدروس يمكن تقديمها لجميع الدول العالم، لتتفادى الوقوع بالأخطاء نفسها. فحسب تقرير معهد التمويل الدولي، شهدت أسعار الصرف في الأسواق الموازية –أي السوق السوداء- ارتفاعات كبيرة في الدول التي قامت بما يُعرف بـ"تسييل العجز في الميزانيّة العامة"، أي الاعتماد على المصارف المركزيّة لطباعة النقد والاقتراض منها لتمويل الإنفاق الحكومي. فهذا النوع من الممارسات يؤدي عمليّاً إلى ضخ كميات من السيولة بالعملة المحليّة إلى السوق المحليّة، في مقابل شح تدفّق العملة الصعبة. وهو ما يؤدي في المحصّلة إلى ارتفاع سعر صرف العملة الصعبة مقابل العملات المحليّة في السوق الموازية، وبالتالي إلى زيادة الفارق بين سعر الصرف الرسمي وسعر صرف السوق الموازية.

في الواقع، تنطبق خلاصة معهد التمويل الدولي بشكل مثالي على الحالة اللبنانيّة، خصوصاً أن الميزانيّة العامّة في لبنان سجّلت خلال السنة الماضية عجزاً يقدّر بنحو 2.61 مليار دولار لغاية شهر أيلول، أي ما يقدّر بنحو 3.48 مليار دولار على أساس سنوي. وبغياب أي مصدر آخر للاقتراض، قامت الدولة اللبنانيّة طوال هذه الفترة بالاعتماد على مصرف لبنان لطبع العملة، والاقتراض منه لتمويل هذا العجز. وهو ما مثّل أحد أبرز أسباب تهاوي سعر صرف الليرة اللبنانيّة في السوق السوداء. علماً أن مستوى العجز هذا يشير إلى أن مصرف لبنان طبع ما يقارب 5.25 ألف مليار ليرة لبنانية لتغطية نفقات الدولة خلال العام الماضي. وهي كتلة ضخمة من السيولة تقارب قيمتها وحدها 80% من السيولة التي كانت متداولة في الأسواق خارج مصرف لبنان قبيل حصول الأزمة.

الدراسة خلصت أيضاً إلى أن اتساع الفوارق بين أسعار الصرف المتعددة مرتبط أيضاً بالفشل في التحكّم بحجم الكتلة النقديّة المتداولة بالعملة المحليّة، لأسباب أخرى غير تلك المتصلة بتمويل الإنفاق الحكومي. وهذه الخلاصة تنطبق أيضاً على الحالة اللبنانيّة. إذ تظهر أرقام مصرف لبنان أن حجم السيولة المتداولة خارج مصرف لبنان بالعملة المحليّة اتسع بين تشرين الأول 2019 ونهاية شهر آذار الماضي من 6.47 ألف مليار ليرة لبنان إلى نحو 36.5 ألف مليار ليرة، أي أن حجم هذه السيولة تضاعف بنحو 5.64 مرات، خلال فترة لم تتجاوز السنة والخمسة أشهر. علماً أنه في الحالة اللبنانيّة، اتصل طبع العملة بغايات مختلفة، منها تسديد الودائع المدولرة بالعملة المحليّة، وطبع النقد لسداد ديون الدولة للمصارف، بالإضافة إلى إجراء هندسات ماليّة جديدة تسمح بإعادة رسملة المصارف. وهذه الإجراءات اتصلت جميعها بأزمة القطاع المصرفي ومصالح المساهمين فيه. وعلى أي حال، ساهم تضخم حجم السيولة المتداولة بالعملة المحليّة طوال الفترة الماضية بانهيار سعر صرف الليرة في السوق الموازية، ما أدى إلى اتساع الفارق بين أسعار الصرف.

مرحلة التصحيح
وكما يطرح التقرير مجموعة من الدروس المستخلصة من الحالة اللبنانيّة والحالات الشبيهة بها، يقدّم معهد التمويل الدولي مجموعة توصيات يمكن أن يستفيد لبنان منها للخروج من أزمته الراهنة. فتقليص الفوارق بين أسعار الصرف الرسميّة وسعر صرف السوق الموازية بشكل تدريجي، تمهيداً لتوحيد أسعار الصرف وتعويم السعر الرسمي، لا يعني الدخول في مرحلة التضخّم بالضرورة، خصوصاً إذا توازت هذه الإجراءات مع رزمة من الإصلاحات الاقتصاديّة المناسبة، ومع عودة التدفقات الماليّة من الخارج، وإذا تمتعت البلاد برزمة دعم ماليّة من صندوق النقد تسمح بالسيطرة على سعر الصرف خلال المرحلة الإنتقاليّة. كما يشير التقرير إلى أن مرحلة توحيد أسعار الصرف يمكن أن تمر بسلاسة وبسرعة، إذا تمكنت البلاد من التخلّص من الاعتماد على احتياطاتها عبر تأمين تدفقات وازنة من العملة الصعبة من الخارج.

لكنّ لبنان يسير عمليّاً عكس كل هذه النصائح. فالاتجاه لإلغاء الدعم، أي إلغاء سعر الصرف الرسمي القديم، يأتي اليوم تحت وطأة استنزاف احتياطات مصرف لبنان القابلة للاستخدام حتّى حدودها القصوى. ولا يتوازى مع أي إجراءات أو خطط اصلاحية شاملة تضمن انتقال البلاد إلى مرحلة سعر الصرف العائم بشكل مرن. وبغياب التدفقات الماليّة من الخارج، وفي ظل فشل مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي، لن تملك الدولة أي أدوات قادرة على كبح التضخّم، الذي سينتج عن الدخول في مرحلة إلغاء سعر الصرف الرسمي.

لكل هذه الأسباب، من المتوقع أن نخرج قريباً من مرحلة تعدد أسعار الصرف، أو على الأقل من مرحلة اعتماد أسعار صرف معيّنة لدعم الاستيراد. وذلك ببساطة لأن مصرف لبنان لم يعد قادراً على تقديم هذا الدعم اليوم. لكنّ الخروج من هذه المرحلة سيحمل كلفة اجتماعيّة باهظة جدّاً، وستكون تجربة لبنان في الخروج من مرحلة تعدد أسعار الصرف بدورها درساً لأمم العالم التي تمر بأزمات مشابهة، لتدرك ثمن التغاضي عن إجراء الاصلاحات المطلوبة بعد الوقوع في أزمات ماليّة ونقديّة من النوع الذي شهدناه. وستكون الحالة اللبنانيّة بعد رفع الدعم وإلغاء تعدد أسعار الصرف أرضاً خصبة للمؤسسات الدوليّة الباحثة عن دراسة تجارب "الدول الفاشلة"، تماماً كما كانت تجربتنا مع الدعم وتعدد أسعار الصرف نموذج عن فشل السياسة النقديّة. أما لبنان، فيبدو أنه محكوم بالوقوع في الأزمة تلو الأزمة، من دون أن يتعلّم من دروسه أو دروس الآخرين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024