الصين في طرابلس و"طريق الحرير" عبر قطارات وموانئ لبنان

علي نور الدين

الأربعاء 2019/06/26

لا تخفي الصين في أي مناسبة شغفها بتوسيع شبكة استثماراتها حول العالم، وتحديداً في قطاعات البنية التحتيّة والمواصلات، وأطر الشراكة الاستثماريّة المختلفة، وفق مشروع طريق الحرير. فالصين اليوم، وانطلاقاً من هذا المشروع بالتحديد، في سباق مع الزمن لإطلاق شبكة واسعة من المبادرات، الكفيلة بربطها تجاريّاً واستثماريّاً بدول آسيا ومنها إلى أوروبا وأفريقيا، مروراً بالشرق بالأوسط.

وعلى ما يبدو، شاءت الظروف الإقليميّة وخطط إعادة إعمار سوريا، أن تضع لبنان على خارطة طريق الحرير وفي دائرة إهتمام الصين الاستثماريّة، وتحديداً في مجال إعادة إحياء سكّة الحديد والاستثمار في ميناء طرابلس وقطاع المواصلات. بينما شاءت الظروف الاقتصاديّة المحليّة في لبنان أن تجعل من استثمارات الصين حاجة ملحّة له.

فتح الأبواب
الشغف الصيني الواضح بفتح أبواب الاستثمار في البنية التحتيّة، يقابله من الجانب اللبناني تعطّش للاستثمار الأجنبي، وبالأخص في ظل الأزمة القائمة، والحاجة الماسّة للسيولة من هذه الاستثمارات. ففي مقابل تشجيع الصينيين لصِيَغ الشراكة مع القطاع العام في عملها مع الدول الأخرى، تتجه السياسات الرسميّة في لبنان إلى استقدام الإستثمارات وفق مبدأ الشراكة بين القطاعين العام والخاص في كل المجالات، وهو ما يخلق تطابقاً بين التطلّعات الصينيّة وتوجّه السياسات الاقتصاديّة محلّياً.

وبينما يعاني لبنان في تحقيق الشروط التي أملتها الأطراف المانحة في مؤتمر سيدر، لاستقطاب القروض المدعومة، تعمل الصين وفق آليّات مستقلّة خاصّة، من خلال البحث عن فرص مربحة لها تجاريّاً واستراتيجيّاً في كل قطاع على حدة، وهو ما يزيد من جاذبيّة الاستثمارات الصينيّة للبنان، في هذه الظروف بالذات. كل هذا، خلق نوعاً من الانسجام بين الرؤى الصينيّة في إطار مشروع طريق الحرير، والظروف الاقتصاديّة والسياسيّة المحليّة، وهو ما يعبّد الطريق اليوم أمام المسعى الصيني لفتح أبواب الاستثمارات في قطاعات محددة في لبنان.

ميناء طرابلس وسكّة الحديد.. والحسابات السوريّة
هذا التطابق في السياسات والمصالح ترجمته الصين باهتمام لافت بالوضع اللبناني. فمنذ سنتين تتوالى زيارات الوفود الصينيّة إلى لبنان، في لقاءات تعبّر بصراحة عن رغبة في البحث عن فرص الاستثمار في لبنان، وتحديداً في قطاع المواصلات وتفعيل سكك الحديد، مع تركيز خاص على مرفأ طرابلس ومنطقة الشمال ودور الاستثمارات الصينيّة فيها. وقد توّجت منذ فترة هذه اللقاءات باجتماع لوفد صيني مع وزير الأشغال العامّة، عارضاً الخطط الأكثر الجديّة حتّى الآن، لإعادة إحياء سكّة الحديد اللبنانيّة، في إطار مشروع استثماري "واسع النطاق على مستوى المنطقة".

في الواقع، لا تنفصل هذه الخطط عن حسابات الصين في الجانب السوري، وهو ما برز بوضوح إثر اللقاء، في كلام رئيسة الجمعية الصينيّة العربية للتبادل الثقافي والتجاري إليانا إبراهيم، عن أنّ خط سكك الحديد بيروت – طرابلس من شأنه أن يجذب المستثمرين الصينيين "في حال كان جزءاً من مجهود واسع النطاق لربط المنطقة ببعضها البعض"، لتشدد بعدها – وبتعابير أوضح- أن الصينيين يبدون اهتماماً أكبر بربط "بيروت بطرابلس، وطرابلس بحلب، وحلب بدمشق، وهكذا دواليك".

فالصينيّون يدركون جيّداً أنّهم سيكونون في مرحلة إعادة الإعمار السوريّة الطرف الأكثر قدرة ماليّاً على ضخ الاستثمارات والاستفادة من هذه الحقبة، مقارنةً بالحجم الاقتصادي لباقي حلفاء النظام السوري. كما يعلمون حاجة هذا النشاط الاستثماري إلى قاعدة مواصلات بحريّة وبريّة، تملك القدرة على ربطهم بالأنشطة الاستثماريّة في الداخل السوري. ونظراً لهيمنة روسيا بإحكام - وبشكل حصري- على الموانىء الساحليّة السوريّة، تشكّل الأراضي اللبنانيّة منطقة جذّابة للصينيين كقاعدة اتصال بالداخل السوري. ومن هنا، ينطلق الاهتمام الصيني بشبكة سكّة الحديد والموانىء اللبنانيّة واتصالها بالداخل السوري.

وفي هذا الإطار، يشكّل قرب مرفأ طرابلس من الشمال السوري نقطة جذب إضافيّة، بالأخص نظراً لعمق المياه فيه، الذي يسمح باستقبال بواخر كبيرة مقارنةً بالموانىء السوريّة. وهو ما يبرر اهتمام الصينيين بالفرص الاستثماريّة في هذا الميناء تحديداً، وبربطه عبر القطارات بباقي المدن. أمّا ربط مرفأ بيروت بمرفأ طرابلس ضمن إطار شبكة قطارات "واسعة النطاق"، فسيسمح لاحقاً بزيادة القدرة على التوريد من الخارج إلى هذه الشبكة من خلال موانىء المدينتين معاً، ومنها إلى المناطق السوريّة.

وفي كل الحالات، فالاهتمام الصيني بقطاع المواصلات والموانىء في لبنان تخطّى مرحلة الخطط، إذ وقّعت الصين خلال الفترة الماضية عقوداً بقيمة 58 مليون دولار في مرفأ طرابلس، تركّزت على مشاريع تهدف إلى توسعة القدرة الاستيعابيّة للميناء. وبفضل هذه المشاريع تزايدت حركة البواخر الصينيّة الضخمة في مرفأ طرابلس، حيث أصبحت هذه البواخر تنقل الحاويات بكميّات كبيرة إلى مرفأ طرابلس، قبل توزيعها على المرافىء الإقليميّة الأخرى ببواخر متوسّطة الحجم. وهكذا، تمهّد الصين تدريجيّاً للعب دور إقليمي أوسع من خلال هذه المرفأ. وهو ما تتأمّل باستثماره لاحقاً بشكل أكبر، في حال سارت الشركات الصينيّة بمشروع شبكة سكك الحديد.

الخطط اللبنانيّة الغائبة
بينما ترتبط الخطط الصينيّة بالمصالح الاستراتيجيّة على مستوى المنطقة، لا يبدو أنّ ثمّة تصوّراً لبنانياً لطريقة الاستفادة من هذه الفرص الاستثماريّة على المستوى البعيد. فالطروحات الصينيّة لإعادة إحياء سكك الحديد تمثّل اليوم فرصة للاعتماد على النقل عبر القطارات (للأفراد كنقل مشترك، ولشحن البضائع التجاريّة). وبالتالي، تقليل الاعتماد على النقل الخاص والطرقات. وهو ما يفرض دراسة إمكانيّة الاعتماد على هذا الخيار لمعالجة جزء من أزمة النقل، قبل الإنفاق على البدائل الأخرى المتاحة. أمّا على أرض الواقع، وبينما تبدي الدولة الحماسة للطرح الصيني، تسير في الوقت نفسه في طريق استقدام 2.86 مليار دولار من مخصصات مؤتمر سيدر لإنفاقها على توسعة شبكة الطرقات، من دون أي دراسة لفاعليّة سكك الحديد كبديل متاح ومطروح!

وفي المقابل، وبدل العمل على استقدام استثمارات أخرى في قطاع سكك الحديد، قادرة على التكامل مع الاستثمار الصيني في المستقبل، وتوسعة قدرة هذه الشبكة على تغطية الأراضي اللبنانيّة، يغيب هذا القطاع تحديداً عن كل الجهود الرسميّة، سواء في إطار مؤتمر سيدر أو خارجه. أمّا على مستوى العمل الحكومي، فلا يبدو أن هناك أي نيّة قريبة للتداول في كيفيّة إعادة إطلاق هذا القطاع وتنظيمه، واستقطاب الشركات الراغبة في الاستثمار فيه.

في الخلاصة، يبدو أنّ الجهد الصيني للبحث في فرص قطاع سكك الحديد والمواصلات بشكل عام، بما فيها الموانىء، جدّي أكثر من أي وقت مضى، كونها المرّة الأولى التي تقدّم فيها الوفود الصينيّة تصوّرات جديّة ومتكاملة لطريقة تفعيل هذا القطاع، وتكامله مع الاستثمارات في النطاق الإقليمي الأوسع. لكن التحدّي الأساسي اليوم هو جهوزية القرار الرسمي اللبناني في تذليل العقبات إن وجدت، وفي كيفيّة تكامل الخطط الحكوميّة الأخرى مع الفرص المتاحة من هذه الاستثمارات.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024