إلغاء الحسابات المشفرة يحصّن المصارف ولا يضرّ حزب الله

عماد الشدياق

السبت 2019/05/25

في أعقاب الزيارة التي قام بها وفد من جمعية مصارف لبنان إلى الولايات المتحدة، منتصف الشهر الحالي، والتقى خلالها مسؤولين في وزارة الخزانة الأميركية ووزارة الخارجية ومجلس النواب الأميركي والكونغرس، أصدرت الجمعية، قبل أيام، تعميماً يتضمن توصية من مجلس إدارتها، موجهاً إلى المصارف العاملة في لبنان، تقضي بالتوقف عن فتح الحسابات المرقمة (المشفرة)، وبإقفال تلك الموجودة، في أقرب وقت.

وفُهم من التعميم أنه موجه ضد جهات داخلية، متهمة بغسيل الأموال أو بالإرهاب، ويستهدف خصوصاً "حزب الله".

تواصلت "المدن" مع جمعية المصارف، التي أكد مصدر فيها أن التعميم جاء بعد وعد قطعه الوفد للجهات الأميركية بالتخلي عن تلك الحسابات، لكن في الوقت نفسه قلل من أهمية هذا التعميم، وأعتبره "لزوم ما لا يلزم"، لأن هذا النوع من الحسابات بات من الماضي الغابر، وأن التعميم جاء بطلب أميركي من باب إظهار التزام المصارف باجراءات مكافحة غسيل الاموال وتمويل الإرهاب، مثنياً على نجاح الزيارة إلى واشنطن، التي أكدت تحييد المصارف اللبنانية عن أي عقوبات مستقبلية.

الجهات الرقابية
مصدر آخر في مصرف لبنان كشف لـ"المدن" أن ضغوطا أميركية تُمارس منذ سنوات، للتخلص من هذه الحسابات، لضمان المزيد من الشفافية وتحصين المصارف العاملة في لبنان، نافياً أن تمس الخطوة مفهوم السرية المصرفية، التي باتت محاصرة أصلاً، بفعل خضوع الحسابات المشبوهة، إن وُجدت، لهيئة التحقيق الخاصة، التي تملك الحق بالتدقيق في تفاصيل هذه الحسابات وإحالة ملفاتها إلى المجلس المركزي في مصرف لبنان، الذي يقرر بدوره إحالتها إلى القضاء ورفع السرية المصرفية عنها حكماً، لتبليغ الجهات الخارجية بهويات أصحابها.

وكشف المصدر أيضاً، أن لا علاقة لمصرف لبنان بتعميم جمعية المصارف، وهو لا يحمل أي صفة تنفيذية، ويأتي في إطار التمني "حرصا على المصارف المحلية، وبهدف حمايتها من أي مساءلة خارجية. فأي سهو في الابلاغ عن واحد من هذه الحسابات، قادر على توريط المصرف مع الجهات الرقابية الخارجية". فالمصارف المحلية، حسب المصدر، "ملزمة عند إجراء أي حوالة خارجية تزويد المصرف المراسل ببيانات وتفاصيل الحوالة والجهة المرسلة وكذلك الجهة المستقبلة، كما أنها ملزمة بالتصريح دورياً إن كانت تملك حسابات مرقمة (مشفرة) غير مصرح عنها. فإخفاء أمر كهذا، قد يورط المصرف حكماً بأزمة مع الجهات الرقابية الخارجية".

ماهية الحسابات المشفرة
لكن ما هي الحسابات المشفرة وكيف تُنشأ، وهل يمكن أن يُستفاد منها بمجال غسيل الأموال وتمويل الإرهاب؟ خبير مصرفي كشف لـ"المدن" أن المصارف أقلعت منذ مدة طويلة عن إنشاء الحسابات المشفرة، وآخر تجربة مع هذا النوع من الحسابات كانت خلال أزمة "بنك اللبناني الكندي"، الذي اتُهم بتمويل "حزب الله"، حين هُربت بعض أموال المودعين إلى مصارف أخرى، على شكل أمانات، خوفاً من العقوبات، لكن المصارف المستقبِلة عادت وصرحت عنها للمصرف المركزي والولايات المتحدة، بعد أن وضع المصرف المركزي شأنها بعهدته، من دون الكشف الكثير من تفاصيلها لواشنطن.

الخبير شرح أن هذه الحسابات قد تكون نوعاً مما يسمى  Fiduciary Accountsينشئها غالباً رئيس مجلس إدارة المصرف أو مديره العام حصراً (الوظيفتان منوطتان بشخص واحد في أغلب المصارف المحلية)، وإن التعامل بها، إيداعًا وسحبًا، يحصل نقدًا وليس بموجب شيكات أو حوالات. بيانات هذه الحسابات وأرصدتها موجودة على أنظمة المصرف الالكترونية، لكن الاسم والمعلومات الخاصة بمالكيها محفوظة ضمن جدول ورقي أو رقمي في خزنة رئيس مجلس الإدارة حصراً. المصرف لا يدفع لها فوائد، ولا يمكن إجراء حوالات داخلية أو خارجية عبرها: "هي حسابات لأشخاص لها أسبابها الخاصة حتى تخفيها". لا إمكانية لمعرفة عدد هذه الحسابات في لبنان، لكن المصرف المركزي سبق وطلب من المصارف المحلية التصريح عن كامل هذه الحسابات (عدداً وأرصدة)، وبياناتها موجودة بعهدة مصرف لبنان لكن ليس ضمن دوائره الدنيا.

لا يضر حزب الله ولا يفيده
حسب الخبير، فإن المصارف التي كانت في الماضي تسوّق لنفسها من خلال خدمة الحسابات المشفرة، باتت اليوم لا تجرؤ على الإشهار بامتلاكها، خصوصا تلك الفاعلة في مجال الحوالات المصرفية مع الخارج عالمياً، لأنها لن تجد مفراً من التصريح بوجود هذه الحسابات لديها، فالاستمارة التي يرسلها المصرف المراسل دورياً مرة أو مرتين في السنة (Due diligence questionnaire) تتضمن خانة مخصصة للسؤال عن امتلاك المصرف المحلي هذا النوع من الحسابات، للتأكد من امتثال المصرف المذكور لاجراءت مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وغالباً، يصعب على المصرف أن يخفي الحقيقة. لهذا السبب، تميل المصارف العاملة في لبنان، إلى التخلي عن الحسابات المشفرة، تفادياً لهكذا الالتباس، وأن الموجود منها يعود حكماً إلى ما قبل أزمة "اللبناني الكندي".

ولدى سؤاله عن علاقة "حزب الله" المفترضة بالحسابات المشفرة، سخر الخبير من هذه الفرضية، واعتبر أن توقفها لا يضر بالحزب ولا يفيده، فهذه "حسابات لصوص وأمراء الحرب الأهلية وتجار السلاح والمختلسين". وقد نشطت هذه الحسابات في الماضي لإخفاء الأموال ضمن حسابات سرية. كذلك في حينه، كانت فروع المصارف غير موصولة تكنولوجيًا مع إداراتها المركزية، وكانت تنقل البيانات كلها فيزيائيا إلى الفرع الرئيسي وتُدخّل بالحاسوب كل يوم بيومه: "تلك الحقبة كانت ملاذاً لتلاعب مدراء المصارف، وسرقة الحسابات حينما يُتوفى أصحابها. كانوا يفتحون حسابات مرقمة (مشفرة) لتهريب الأموال المنهوبة إليها". أما ملاحقة "حزب الله" فشأنها مختلف، فالحزب حسب الخبير "يعلم جيدا آليات عمل القطاع المصرفي. أي حساب لمؤسسة تغذي الحزب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أؤكد لك أن حاكم مصرف لبنان قادر كما رئيس مجلس إدارة المصرف ومن هم دونهما أن يعلموا بوجودها، وقد يحاولون اخفاء هويتها لحماية المصرف وإبعاد الشبهات عن القطاع. يتغير النظام الداخلي للمؤسسة المشبوهة خلال أسبوعين، تتبدل أسماء المالكين والمؤسسين.. وكأن الحساب اختفى وظهر خلافه. حزب الله أذكى من ذلك ولا يتصف بالغباء أصلاً".

حماية العملاء
صحيح أن الحزب غير موجود بهويته في القطاع المصرفي، لكنه حاضر من خلال أشخاص يملكون مؤسسات تجارية رسمية وشرعية. المصارف لها مصلحة بحماية هؤلاء الأشخاص لأنهم شرعيون، أكانوا أفراداً أو شخصيات معنوية، وهي تسعى دوما لإبعادهم عن أي شبهات بعلاقتهم بـ"حزب الله"، ليس حباً بالحزب وإنما بهدف الاستفادة من أموالهم كعملاء. قد يكون لهؤلاء علاقات مع الحزب من خلال التبرعات أو نقل الأموال من منطقة إلى أخرى في الداخل اللبناني أو خارجه، تحت ستار عمليات تجارية، وبالتالي حسابات تملكها شركات تجارية أو عقارية أو شركات استيراد وتصدير تعود لأشخاص شيعة معروفون بالأسماء، والمصارف لها مصلحة بحمايتهم والمحافظة عليهم لثقلهم المالي. وقد أدرجت بعض هذه الحسابات على اللائحة السوداء بعلم مصرف لبنان وهيئة التحقيق الخاصة، فأعطيت هويات مختلفة لتفادي العقوبات أو التجميد وعدم تضررها.

ويسأل الخبير في الختام، "إن كانت ايداعات الحسابات المشفرة تحصل نقداً لدى رئيس مجلس الإدارة، وهو من يتولى إيداعها بهدوء، على مراحل، ولا يمكن الاستفادة منها بحوالات ودفوعات وشيكات، ألا يمكن الاستعاضة عنها بإيجار صندوق خزنة حديدية داخل المصرف بكلفة سنوية زهيدة؟".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024