إلى سكان بيروت: هذه هي المياه التي تشربونها!

عزة الحاج حسن

الثلاثاء 2018/12/04
من غير مقدمات، أو عبارات تنميقية، تخفّف من وقع الحقائق المقلقة والمهينة.. اللبنانيون ربما يشربون كما يتنشقون. فالتلوث قد يغزو بيوتنا وقوارير المياه المخصصة لأطفالنا، كما غزا هواءنا وترابنا وبحرنا و"ليطاننا"، ما لم تتم السيطرة على مافيات المياه، وتنظيم قطاع تعمّه الفوضى، والدكاكين التي تتحكّم بصحة المواطن، من دون حسيب أو رقيب.

قد يخرج اليوم كثر من المدافعين عن صحة وسلامة آبار إرتوازية دون الأخرى، وعن شركات تعبئة دون غيرها، أو حتى عن شركات توزيع أو صهاريج، بحجة أن لا دلائل دامغة على تلوث كل ما سبق ذكره، ولكن سؤالنا هل من دلائل على صحة وسلامة المياه التي يشربها اللبنانيون عموماً، وأهالي بيروت الكبرى وسكانها خصوصاً، إن من الآبار أو الصهاريج أو شركات التعبئة؟ من قال أن مياه بيروت خالية من "البراز البشري" على غرار بعض آبار ضواحيها؟ ومن قال أن مياه بيروت خالية من الجراثيم والمواد الملوِثة؟

لا رقابة ولا كشف على صحة مياهنا، التي نشربها من غالبية الآبار الأرتوازية المتواجدة في بيروت، ولا رقابة على "دكاكين" المياه ومحال التعبئة، ولا من يسأل أصحاب الصهاريج من أين يعبئون المياه التي يبيعونها للمواطنين.

جمهورية الآبار
لا أرقام رسمية عن عدد الآبار الإرتوازية الخاصة المتواجدة في لبنان عموماً، وفي بيروت خصوصاً، إنما هناك مؤشرات تؤكد وجود عشرات الآلاف من الآبار على امتداد الوطن، ومنها ما لا يقل عن عدة آلاف في بيروت، فالأرقام "اليتيمة" المتوافرة عن عدد الآبار تعود الى العام 2012، وفق دراسة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يكشف فيها وجود نحو 20537 بئراً مرخصة وأكثر من 60 ألف بئر غير مرخصة.

ونظراً لكون تلك الارقام تعود الى العام 2012، أي قبل احتدام حالة الشح في لبنان، نتيجة تراجع المتساقطات سنوياً، يمكن الجزم بارتفاع تلك الأرقام بالآلاف، لاسيما في بيروت، حيث تتلازم عملية حفر بئر إرتوازي مع تشييد أي مبنى، لكون وجود بئر إرتوازي يُعد عنصراً جاذباً لتسويق الوحدات السكنية، ورفع أسعارها.

نعم، لا أرقام رسمية عن عدد الآبار في بيروت، لكنها من دون شك تشكل سبباً أساسياً ومباشراً لتراجع مخزون المياه الجوفية، وسوء توزيع مياه الشفة في بيروت، وتعزيز الفوضى في قطاع المياه. فهناك مئات الآبار القانونية، الحاصلة على تراخيص بالحفر من وزارة الطاقة والمياه، ويقابلها المئات من الآبار غير القانونية، أي انها إما غير حاصلة إطلاقاً على تراخيص بالحفر، أو أنها حاصلة على تراخيص من جهة غير مخولة. وبالتالي، تعتبر مخالفة. وفي شتى الأحوال لا رقابة على نوعية المياه، التي يتم جرها من مئات الآبار الإرتوازية إلى بيوت المواطنين، "وليس هناك أدنى فكرة عن نوعية المياه التي تستخرج من الآبار المخالفة"، يقول المدير العام لمؤسسة مياه بيروت جان جبران في حديث الى "المدن".

فمن المسؤول عن مسح أعداد الآبار وتحديد قانونيتها وممارسة الرقابة على نوعية المياه التي تحويها؟

مياه ملوثة؟
لا يمكن إجراء مسح للآبار المخالفة الموجودة في بيروت، إذ هناك الكثير من الآبار يتم حفرها من دون علم المؤسسة، حسب جبران، وبالتالي لا يمكن التأكد من صحة مياهها، لا بل من غير المُستبعد إطلاقاً تداخل مياه الآبار المخالفة مع مياه الصرف الصحي، أو أي مواد أخرى تعرضها للتلوث.

ويوضح جبران أن الآبار القانونية يمكن ضبطها، وممارسة رقابة دورية عليها، لاسيما أنها محكومة بوجود عدادات، تكشف إمكانية اختراق أصحابها للسقف المسموح باستخراجه من مياه البئر، خصوصاً أن تراخيص حفر البئر الارتوازي تُمنح بناء على صحة العديد من المعطيات، منها المرتبطة بالموقع الجغرافي للبئر ومدى عمقه. وانطلاقاً من ذلك، تكمن خطورة الآبار غير القانونية، يقول جبران، فعملية الحصول على رخصة من أي جهة غير وزارة الطاقة، يكون غير مشروط، وبالتالي لا تراعى فيها المواصفات الصحية، خصوصاً لجهة تحديد سقف كميات السحب.

من هنا يرجّح جبران أن تكون الغالبية العظمى من الآبار الموجودة في مباني بيروت "غير شرعية"، وجميعها عرضة للمياه الملوثة، لاسيما مع استمرار استعمالها من دون ضبط الكميات المتوافرة ومراعاة أوقات الشح، والحل؟ يرى جبران أن لا حلول سوى بتسكير الآبار الأرتوازية المخالفة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بعد  تأمين المياه الصالحة بشكل مستمر لبيروت.

صهاريج وتواطؤ
بات لصهاريج المياه في لبنان "قطاع" رديف لقطاع المياه الرسمي، على غرار قطاع مولدات الكهرباء، الذي شكل "مافيا" على مدى سنوات مديدة، فاقت سلطتها قدرة الدولة على السيطرة. كذلك يبدو أن صهاريج المياه تتحكم بسوق بيع المياه للمواطنين، وبأسعاره، من دون أدنى دليل على صحة المياه التي تبيعها هذه الصهاريج للمواطنين.

فالصهاريج خارج دائرة الرقابة والتنظيم كلياً، ولا من يسأل عن نوعية المياه ومصدرها، ولا عن صحة نقلها أو نظافة الصهاريج، وعلى الأغلب هي تتعاقد مع آبار ارتوازية غير قانونية، بمعنى أن لا رقابة على كميات المياه المسموح بسحبها. وبالتالي، يصبح نقل الصهاريج لمياه ملوثة أمراً وارداً لا بل مرجّحاً، كما يتحدث البعض عن تواطؤ بين زمرة من الصهاريج مع موظفين تابعين لمؤسسة مياه بيروت وعاملين في الآبار العامة التابعة لها.

هذا التواطؤ الذي يبيح سرقة مياه آبار الدولة، وبيعها للمواطنين، ويساهم في خفض منسوب الآبار الرسمية، لم يستبعده جبران، ويقول: "لا أضمن عدم وجود تواطؤ بين صهاريج وموظفين. من هنا، نحن نعمل على ضبط أي مخالفة، والتشدد في مراقبة الموظفين التابعين للمؤسسة، بمعنى آخر نحن نعمل على "تنظيف" المؤسسة داخلياً، وعند فروغنا من تنظيف أنفسنا "كمؤسسة مياه بيروت" من الفاسدين والمرتشين، يمكن الإلتفات إلى تنظيم الصهاريج أو غيرها، والدخول في "معمعة" قطاع المياه.

نهاية الفوضى!
يتفاءل جبران ببدء عودة قطاع المياه إلى سياقه الطبيعي عام 2022، إن لجهة "إغلاق" الآبار الارتوازية المخالفة، أو لجهة تنظيم الصهاريج ودكاكين بيع المياه، وذلك عبر تأمين المياه لبيروت على مدار الساعة، بعد الانتهاء من المنظومة المائية المتكاملة، والمتمثلة بنقل مياه الليطاني، بعد تكريرها وتنقيتها، من الجنوب إلى بيروت، إضافة إلى تحويل مياه سد جنة من الشمال إلى بيروت، كذلك سد بقعاتا، عندما ينتهي العمل به، سيرفد المياه من المتن إلى بيروت، وسد القيسماني ستُجر مياهه أيضاً إلى  بيروت. كما سيتم العمل على سد بسري، وحينها ستحل كافة المشاكل عند تأمين المياه بشكل مستمر.

هذه الرؤية التفاؤلية تعكس حماسة جبران، التي لم تهدأ منذ سبعة أشهر، مع وصوله إلى مؤسسة مياه بيروت، ولكنها لاشك تستحضر معها تجربة لبنان مع الكهرباء 24/24 الموعودة منذ سنوات ولا زال الملف "مكانك راوح".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024