ماكينزي للبنان: ازرع الحشيشة!

علي نور الدين

الأحد 2018/07/08

خطّة متكاملة من ألف صفحة، من المفترض أن تحدد للبنان هويّته الاقتصاديّة والقطاعات التي ستركّز عليها الدولة في خمس سنوات مقبلة، وستكون المصادقة عليها أولى مهمات الحكومة بعد نيلها الثقة. لكن ثمّة مشكلة صغيرة: لا يعلم اللبنانيون شيئاً عن هذه الخطّة سوى رؤوس الأقلام التي أعلنها وزير الاقتصاد رائد خوري، عند قيامه مع فريق عمل ماكينزي باطلاع رئيس الجمهوريّة ميشال عون على تصميم الدراسة. عليه، على اللبنانيّين تلمّس توجّهات هذه الخطّة المصيريّة من هذا اللقاء، خصوصاً في ظل تحفّظ الجميع عن الإفصاح الكامل عن المضمون.

الواضح بحسب ما تم اعلانه أنّ طبيعة الخطّة لا تخرج عن إطار المقترحات النظريّة التي يمكن أن يخرج بها الاستشاريون لتحديد ما يرون أنّه "فرص سريعة" أو Quick Wins، بعيداً من أي نقاش جدّي في جوهر السياسات الاقتصاديّة القائمة.

فبينما يقف النظام المالي أمام أسئلة عميقة تتعلّق بجمل السياسات التي اعتمدتها الدولة منذ التسعينات، خصوصاً بعد أزمة مستدامة منذ سبع سنوات فرضت اتخاذ إجراءات استثنائيّة ومكلفة لتمديد عمره، حملت الخطّة اقتراحات هامشيّة من قبيل تطوير القنوات الرقميّة واستهداف العملاء ذوي الأرصدة الضخمة.

لا يقف الحديث هنا أمام واقع المخاطر المحدقة إزاء ارتباط مخاطر القطاع المالي بمخاطر الدين السيادي، والحاجة المستمرّة إلى التدفّقات الخارجية وتضخّم الودائع لتمويل هذا الدين. ولا يتطرّق إلى الأزمة المتعلّقة بوضع هذه التدفّقات الآن ونتيجة ميزان المدفوعات منذ العام 2011، التي تظهر استنفاذ قدرة هذا النموذج على الاستمرار والنمو أكثر بإغراء مزيد من التدفّقات الماليّة.

وفي مجال الصناعة، كان الاتجاه إلى التسليم بواقع المشاكل البنيويّة التي تهشّم القطاعات الإنتاجيّة، مقابل التركيز على فرص صغيرة في قطاعات ثانويّة محدّدة يمكن أن تشكّل أرباحاً سهلة سريعة مثل مستحضرات التجميل والعطور. المنطق هو نفسه منذ التسعينات، والذي يبدو أن ماكينزي تتبنّاه بحرفيّته: طالما أنّ لبنان غير قادر على إنشاء إقتصاد منتج، فليكن التركيز على المنتجات أو الخدمات القابلة للتسويق بنوعيّتها والعلامة الفارقة Branding.

ومشكلة هذا الطرح أنّه كان عنوان الانحدار في القطاعات الإنتاجيّة في لبنان، بعدما تم تكريس العوامل التي تسقط أي جهد إنتاجي فعلي، مثل تكريس عوامل ارتفاع أسعار العقارات وكلفة التمويل والفوائد لجذب الودائع (وتمويل الدين) وغيرها. وبدل أن ينتج لبنان أي علامة فارقة، أصبح الاقتصاد الريعي علامته الفارقة المعروفة والوحيدة. في الواقع، أسقط هذا النهج علامات فارقة وماركات لبنانيّة شهيرة، ولم يثمر التركيز على أي قطاع ثانوي في ظل هذا التراكم الرهيب في عوامل الفشل الموجودة في النظام الاقتصادي لدينا.

والاتجاه هذا هو نفسه في مجال الزراعة. وبدل بحث العوامل التي أدّت إلى تراجع الاستثمارات في هذا القطاع، تتجه المقترحات إلى تحفيز التركيز على الزراعات والحبوب ذات القيمة المضافة الأعلى. مع العلم أن تحديد الفرص وهوامش الربح الجيّدة هو اختصاص المستثمرين الأمثل، خصوصاً أنّها تتعلّق "ببورصة" أسعار متقلّبة بشكل كبير وذات مخاطر محدّدة. في المقابل، كان يجدر بخطّة شاملة من هذا النوع التفكير في الفشل المزمن في توفير بيئة استثماريّة ملائمة في هذا القطاع، خصوصاً في ما يتعلّق بالبنية التحتيّة الملائمة للقطاع بأسعار تنافسيّة. لكنّ هذا لم يمنع الشركة من إضافة لمسة "إستشاري" جريئة باقتراح خلّاق لم يفكّر فيه اللبنانيّون من قبل: الحشيشة قد تكون واحدة من هذه الزراعات الجذّابة!

المشكلة أنّ الشركة تعيد طرح هذا النوع من الخطط بينما تتراكم على رفوف الدولة اللبنانيّة عشرات الخطط التي لم يتم وضعها قيد التنفيذ. منها على سبيل المثال خطّة شركة بوز أند كومباني في العام 2010 الشبيهة، التي يبدو أنّ جزءاً كبيراً من خطّة ماكينزي سيكون إعادة إنتاج مقترحاتها، أو خطّة شركة مونينور التي تم إعدادها في العام 2000.

ومن غير المفهوم هنا هذا الارتكاز على شركات الاستشارات الأجنبيّة، وأسلوبها في العمل. فلبنان أنجز مثلاً في السابق خططاً من عمل خبراء واقتصاديين لبنانيين من دون الحاجة لهذه الكلفة التي بلغت 1.3 مليون دولار. منها خطّة "نهوض لبنان" التي أنجزتها في العام 2007 مجموعة من الخبراء الاقتصاديين اللبنانيين، ودراسة مجلس الإنماء والإعمار في العام 2003 التي فصّلت قدرات ومزايا كل منطقة لبنانيّة من الناحية الاقتصاديّة، وغيرها من الدراسات التي تم إنجازها في فترة التسعينات.

في المحصّلة، لا يبدو أنّ لبنان سيسير في طريق التنفيذ الفعلي لتوصيات الشركة، بمعزل عن إقرار الدراسة المتوقّع، خصوصاً أن قرارات السلطة السياسيّة في لبنان تحكمها التوافقات المرتكزة على قاعدة المحاصصة في المشاريع والتوظيفات. ولعلّ هذا سبب إضافي للقول إن لبنان لا يحتاج تقنيّات Problem Solving الاستشاريّة المبسّطة، بل مشاريع متكاملة ذات طابع واتجاه سياسي- اقتصادي واضح. وهذا ما لا تتخصّص ماكينزي ومثيلاتها فيه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024