"لجنة التقصّي" تاهت عن المودِع!

عصام الجردي

الجمعة 2020/06/19

"إنتهت".. وانتصر فريق رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب وحاكم مصرف لبنان والمصارف. حسمت مقاربة "لجنة تقصي الحقائق" رقم الخسائر الإجمالية إلى 81,299 تريليون ليرة من 240,839 تريليونًا! واعترف رئيس الحكومة حسّان دياب ومعه وزير المال غازي وزني بالهزيمة. أي بوفاة "خطة التعافي المالي" والفلسفة التي بُنيت عليها. لكن واحدًا من "لجنة تقصي الحقائق" لم يتحدث عن حقوق المودعين وماذا بقي منها، ومتى يمكنهم الحصول عليها، لو ثمة ما بقي في الأصل. ألا ترون أن كل الذين أسهموا في الانهيار المالي وإعسار الدولة ومصرف لبنان والمصارف هم الذين يشكلون اللجان ويبتكرون مشاريع حلول سيحكم التاريخ عليها والمستقبل، إلّا أصحاب الحقوق والودائع ليس من يمثلهم ومقصيون في "عهد الإصلاح والتغيير" و"الحلف الممانع" ومدّعي السيادة وحقوق الانسان.

الجرائم والأضاحي
"تقصي الحقائق" مفردتان شاع استخدامهما في حالات الحروب وارتكاب الجرائم الشنيعة المعاقب عليها دوليًا. واستخدمتا عندنا لتدعيم مقاربات وخيارات تصل إلى أهداف محددة سلفًا. أرقام في الشكل ونتائج في المضمون. وليس مستغربًا أن يقود مجلس النواب هذه المهمّة بدعم وعمل دؤوب من رئيسه نبيه برّي عبر لجنة المال والموازنة النيابية برئاسة إبراهيم كنعان. وقد احتشد لها عشرات النواب من "تيار المستقبل" وكتلة "حزب الله" و"اللقاء الديموقراطي" و"كتلة الجمهورية القوية" وكل من سقط سهوًا. من زمان تحدثنا عن الأوليغارشيا، التي توزعت فرقًا وجماعات تستلحق نفسها لديمومة المنظومة السياسية الفاسدة. فلسفة "لجنة تقصّي الحقائق" لا تختلف كثيرًا عن مضمون فلسفة الحكومة. تقدير الخسائر مرتبط بما هو أبعد ومتصّل بتعويض المودعين من كيانات الدولة ومؤسساتها وأرباحها المزعومة منها. وقبل إنجاز إصلاح واحد يحرر تلك الكيانات من براثن الكرّاز السياسي – الطائفي، ويترك الناس قطيعًا تلتهمه الكواسر. وكلمّا تراجعت الخسائر يفترض أن تزيد على الورق حصة تعويض المودعين. لا الحكومة قالت كيف من خلال صندوق كيانات الدولة، ولا مصرف لبنان والمصارف قالت من خلال صندوق مشابه تتملكه الدولة نظريًا، وتقرر إصدارات مالية لمصلحته إضافة إلى كيانات الدولة وحيازاتها تحول إلى مصرف لبنان لإطفاء ديونها لديه. ويتكفّل الأخير بسداد ديون المصارف وتوظيفاتها لديه. وأيضًا بلا إشارة لأموال المودعين وحقوق الناس.

حالة وحيدة تتناسب مع مهمّة "لجنة تقصّي الحقائق". أن تعتبر الانهيار المالي وتبديد حقوق الناس ومدّخراتهم جرائم موصوفة. وهي في الواقع أكثر من ذلك وتستدعي أكثر من لجنة لتقصّي الحقائق ليبنى على الشيء المقتضى. هناك انهيار بلد. وإقصاء لأصحاب الحقوق من اللجوء إلى حقهم الذي كفله الدستور بالتقاضي أمام المحاكم. في التبسيط المملّ، حق المودع مقاضاة المصارف التي لم تسدد الوديعة. وحق المصارف مقاضاة الدولة ومصرف لبنان لاستعادة توظيفاتها وديونها وودائعها. وحق مصرف لبنان مقاضاة الدولة لاستعادة تسليفاته. وحق القضاء بذاته ومجلس النواب مقاضاة مصرف لبنان على فتح خزائنه بلا حدود أمام الدولة خلافًا لقانون النقد والتسليف. لكن من بديهيات عمل اللجنة واللجان المماثلة، أن تتحدّث عن الفاعل أو الفاعلين وعن الأضاحي. ولأن مجلس النواب عمادها، فكان من باب أولى أن تستكمل اللجنة عملها بتحقيق نيابي وقضائي وتسمّي الأشياء بأسمائها. الضحايا، مودعون من نحو 1,2 مليون. وبلد في طور الانهيار الشامل. وسعر صرف يتبدّد. ومحركات الاقتصاد متوقفة وكل شيء.. الفاعل بقي مجهولًا ونائبه أيضًا! هذه مهمة اللجنة. لا تطلق النار على نفسها، ولا تسمّي فاسدًا ولا تقاضي. الآن بات المشهد يحكي عن نفسه. لماذا لا يصدر مرسوم التشكيلات القضائية، ويُستأخر تشريع استقلال القضاء. الأسوأ أن الذين أوصلوا البلاد إلى الفقر والانهيار والركود والمهانة والباقي آت، سيعيدون بناء الاقتصاد واستعادة مستوى 55 مليار دولار أميركي ناتجًا محليًا اجماليًا، ونحو 11,5 ألف دولار أميركي سنويًا دخلًا فرديًا إلى الناتج. أقامت "لجنة تقصّي الحقائق" القيامة على الحكومة لأنها اعتبرت إصدارات اليوروبوندز التي تستحق على مشارف 2040 من ضمن الخسائر. لكن كما هو معروف حين تتوقف دولة عن سداد استحقاق دين في أوانه تستحق كل السندات دفعة واحدة. هذا لا يحول دون احتمال استعادة الاقتصاد نشاطه وتحسن الوضع المالي بعد نحو 20 عامًا من الآن. هذه فرضية. لكن الواقع الحالي ينبئ بغير ذلك، طالما يتفرّج قادة الحكم والحكومة ومجلس النواب على الانهيار ويمنعون الإصلاحات ويتقاسمون الوظائف العامة ويحتربون على المنافع ويعطّلون القضاء والدستور.

ائتلاف حقيقي
من كل حدب وصوب اجتمعوا في هذه اللجنة النيابية. من رجال أعمال، وتجّار، ومصرفيين، وصناعيين، وذوات لم يقربوا يومًا الفساد، وموسرين من المال الأبيض وليس من التبييض ولا من التهريب ولا من الصفقات العمومية. وخلصوا في مقاربتهم إلى خفض راديكالي في الخسائر لخفض الأعباء عليهم في النهاية. حسنًا، لو كان تقدير خفض الخسائر سليمًا يعطي قليلًا من الأمل للمودعين المقصيين عن مشاريع الحلول. لكن توحيد الموقف من الحسابات والخسائر لتيسير التفاوض مع صندوق النقد الدولي ليس كافيًا، قبل توحيد الموقف من الودائع وحسم الجدل حيالها. لماذا تتوحدون هناك وتمكرون هنا؟ خصوصًا أن رئيس الحكومة لم يتوقف بعد عن ضخّ التصريحات المتباينة يومًا في إثر يوم. بعد تصريحه الأول عن تبخرّ الودائع، عاد في خطبة الأسبوع الماضي إلى اتهام المصارف بالتفريط في ثقة المودعين. ثم أكّد أن لبنان ليس مفلسًا "وحقوقكم محفوظة، عند المصارف، وعند المصرف المركزي... والدولة هي الضمانة. ولذلك، يجب أن نحمي الدولة، ونحصّنها، كي تكون ضمانة لجميع أبنائها، ولممتلكاتهم، وأموالهم، ومستقبلهم".

"الدولة هي الضمانة" يقول دياب. صحيح، ولو أن المصارف لم تطلب ضمانات على ديونها للدولة التي اعتبرتها عقودًا أنها صفر في لائحة المخاطر. هذا دليل آخر إلى أن تعويض المودعين إذا حصل سيكون من كيانات الدولة وفي آجال مفتوحة على التاريخ.. استوقفنا رفض "لجنة تقصّي الحقائق" حسم 40 في المئة من سندات الخزانة للمصارف بالليرة اللبنانية خصوصًا أن الأخيرة تراجعت بحدة. اللجنة المصون التي ترفض الاقتطاع من الودائع Haircut لم تلحظ تبخر الاقتطاع الهائل من الودائع بالليرة نتيجة تراجع سعر الصرف. ومن دخول اللبنانيين وأجورهم وتعويضاتهم. وهي عليمة لا شكّ بأن يوم يفرج عن الودائع قد تكون تبخّرت بتراجع سعر الصرف.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024