قراءة هادئة في أقوال رياض سلامة وأحوال ماليتنا

نزار غانم

الثلاثاء 2019/11/12

في مؤتمره الصحافي الأخير، توجه رياض سلامة برسائل تطمين للأسواق والمودعين بأن مصرف لبنان يملك الرصيد الكافي ليضمن الايداعات، كما شدد على الإبقاء على سياسة تثبيت سعر صرف الليرة، وعلى حرية نقل الأموال والإيداعات من الداخل إلى الخارج، مبقياً - كما كان متوقعاً - على مبادئ الاقتصاد الحر. فقام برفض إعلان الضوابط على الرساميل، كما لم يعلن سياسة عامة لحلاقة الدين (الهيركات)، الذي كان مطروحاً بقوة بين عدد من خبراء الاقتصاد. كما شدد على أن مصرف لبنان مستعد لتأمين السيولة اللازمة للمصارف. لسان حاله "الوضع استثنائي لكن الشغل ماشي".

لا بد لمن يسمع حاكم مصرف لبنان يتفوه بكل هذا على الشاشة، فيما تحاول الناس اقتحام البنك المركزي على الشاشة الثانية، أن يتساءل هل يعيش رياض سلامة بيننا؟ وهل يتكلم عن لبنان الذي يعيش أزمة مالية، نقدية، وأزمة دين عام في آن واحد، بالإضافة لانتفاضة شعبية في كافة المناطق اللبنانية؟

ولكن بعض التمحيص بكلام حاكم مصرف لبنان، يشي بأن رسالة رياض سلامة كانت موجهة لتهدئة الشارع. أولاً، بأن أموال المودعين ليست بخطر. وثانياً، برسالة ابتزاز مبطنة للمصارف المحلية. وثالثاً، برسالة تطمين للأسواق العالمية أن لبنان لا ينوي الخروج عن مبادئ السوق الحرة. بهدوء عامل الكازينو الذي يعيد توزيع أوراق اللعب، أعلن سلامة ما مفاده:

حلاقة صغيرة غير مباشرة
عبر سياسة الهندسة المالية، قام مصرف لبنان بمصّ الدولار من المصارف، ووضعها في المصرف المركزي، الذي ارتفعت قيمة مديونيته للمصارف من 5.6 مليار دولار في كانون الأول 2017 إلى 35.4 مليار دولار في شباط 2019.

وكانت الهندسة المالية تقوم على إعطاء المصارف التجارية الحق بأخذ قرض بالليرة يبلغ 125 بالمئة من قيمة ودائعهم الدولارية بفائدة قدرها 2 في المئة. ومن ثم يحق للمصرف المذكور أن يعيد إقراض المصرف المركزي المبلغ الأساسي مجدداً، ولكن بالليرة وبفائدة قدرها 13 في المئة. هذه السياسة سمحت لمصرف لبنان بمسك السيولة بالعملة الصعبة واستخدامها، وأعطت المصارف أرباحاً طائلة تقدر 3.3 مليار دولار بين 2017 و2019.

في الأيام الأخيرة، ومع هجمة المودعين لسحب ودائعهم بالدولار، زاد طلب المصارف التجارية على العملة الصعبة بطريقة مطردة. وإزاء قلق المودعين على خسارة إيداعاتهم، وبداية الأزمة المالية، تعالت أصوات المطالبين بقص ديون الدولة والمصرف المركزي للمصارف، التي استفادت لسنوات طويلة من أرباح خيالية من الدين والإيداعات في المصرف المركزي.

رفض رياض سلامة أن يقوم بحلق الديون المستحقة للمصارف التجارية. وفي الوقت نفسه رفض وضع ضوابط رسمية على حركة الأموال. وبهذا قام برمي الطابة مجدداً في ملعب المصارف. بمعنى أنه أبقى على الضغط الشعبي على المصارف، مطالباً إياها بإعطاء المودعين حقوقهم. وفي هذا الوقت أعلن عن قيام مصرف لبنان بتأمين السيولة الضرورية للمصارف بالدولار عبر فائدة تصل إلى 20 بالمئة، على شرط أن تبقى هذه الأموال داخل لبنان ولا يتم تحويلها إلى الخارج.

بهذا المعنى، يقترح سلامة اليوم حلاقة غير مباشرة على ربحية المصارف السابقة، وعبر مدة غير محددة من الزمن. إنها تتمة معكوسة لسياسة الهندسة المالية السابقة. وهي المرة الأولى التي تصل التناقضات بين المصرف المركزي والمصارف إلى هذه الدرجة من تقاذف المسؤوليات. وفي الوقت نفسه، لم يقم رياض سلامة باقتطاع من الودائع الكبيرة للسياسيين والمتمولين، لخفض كلفة الدين كما كان متوقعاً، مساوياً بذلك بين صغار المودعين وكبارهم.

المصارف نحو الإقفال رفضاً
قامت جمعية المصارف بالرد على سلامة عبر لسان اتحاد نقابات موظفي المصارف، الذي أعلن إضراباً في القطاع المصرفي من صباح يوم الثلاثاء في 12 تشرين الثاني 2019 حتى عودة الهدوء إلى الأوضاع العامة. يعتبر هذا الإقفال رفضاً من المصارف لشروط التسوية التي يطرحها مصرف لبنان. وبالجمع بين الإقفال وسياسة مصرف لبنان بعدم فرض القيود على حركة رؤوس الأموال، لن يكون بإمكان صغار المودعين أخذ ودائعهم، فيما يستمر كبار المودعين بتحويلها.

هذا فيما تستمر التظاهرات في كافة المناطق اللبنانية مطالبة بحكومة انتقالية من خارج السلطة السياسية، تقوم بمنع خروج رؤوس الأموال الكبيرة من البلاد، ثم تعمل على إقرار قانون استقلالية القضاء وإعداد قانون انتخابي خارج القيد الطائفي، بالإضافة لإقرار آليات لاسترجاع الأموال العامة المنهوبة.

اللعبة إلى نهاية، فمن يدفع الثمن؟
يشهد لبنان اليوم نزاعاً حاداً بين المصارف، والبنك المركزي، والحكومة والمواطنين المنتفضين في الشارع. وهو قطع حساب لمرحلة من عمر لبنان ابتدأت في التسعينات، اتسمت باقتصاد هش يعتمد على جذب العملات الأجنبية لقاء الاستثمار في الدين العام بفوائد خيالية. وهي طفرة أفادت المطورين العقاريين، والمصارف المحلية، وموّلت عملية هدر المال العام. هذه السياسة المدمنة على التدفق الثابت للدولار من الخارج، لم تبن اقتصاداً حقيقياً، تاركة بلداً مفلساً، مديوناً، بلا اقتصاد منتج، وبلا بنية تحتية تذكر.

هذه اللعبة المالية التي أمنت أرباحاً خيالية لفئة قليلة من المصرفيين وأصحاب رؤوس الأموال، ولشريحة من السياسيين الذين هدروا المال العام بلا حسيب، منذ بداية التسعينات، تشارف اليوم على خواتيمها. رياض سلامة، وإذ يعلن أن شهر العسل مع المصارف انتهى، ما زال ينتهج السياسة السابقة ذاتها، وهي أن الأرباح يأخذها القلة، بينما توّزع التكاليف على الجميع بالتساوي.

على المواطنين الذين نزلوا إلى الشارع، لأنهم يعرفون أن النظام مفلس، أن يقوموا بفرض عقد اجتماعي اقتصادي جديد، قوامه الشفافية في الإنفاق الحكومي، وسياسة تنموية إنتاجية تبتعد عن النظام الريعي، وسياسة ضرائبية عادلة، ومبدأ واضح هو أن من أخذ معظم الأرباح عليه اليوم أن يدفع معظم التكاليف. وأن أي شيء غير فرض هذا العقد الاقتصادي الجديد سيبقى الأوضاع "استثنائية" لأجل غير مسمى!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024