خطر العتمة مجدداً: لا مال لدفع مستحقات بواخر الكهرباء

علي نور الدين

الثلاثاء 2020/08/04
لا تكاد وزارة الطاقة تنتهي من التعامل مع أحد مسببات أزمة الكهرباء، حتّى تبرز أسباب أخطر لتفاقم الأزمة، فيما توحي جميع المؤشّرات بأن البلاد تتجه نحو الأسوأ في كل ما يتعلّق بهذا الملف.

أزمة السداد
آخر التطورات المقلقلة كان تعثّر الدولة في دفع مستحقات شركة "كارادينيز" التركيّة، المسؤولة عن تزويد البلاد بحوالى 400 ميغاوات، أي ما يمثّل ربع إنتاج مؤسسة كهرباء لبنان، و40 في المئة من الطاقة الكهربائية التي يتزوّد بها جبل لبنان حاليّاً. باختصار، أصبحت الدولة اللبنانيّة متخلّفة عن سداد ما يزيد عن 100 مليون دولار من الأموال التي استحقّت حتّى الآن لصالح الشركة التركيّة، ويبدو أنها لن تكون قادرة على سداد الأموال التي ستستحق من الآن وحتى نهاية عقدها مع الشركة السنة المقبلة، والتي تتراكم بمعدّل 142 مليون دولار أميركي سنويّاً.

أمّا الخطر الذي سيواجهه لبنان اليوم، فهو إمكانيّة انسحاب البواخر في حال لم تتم معالجة المسألة في الفترة المقبلة، مع ما يعنيه ذلك من فجوة كبيرة في التغذية الكهربائيّة التي تستفيد منها مؤسسة كهرباء لبنان.

أزمة السيولة
يتصل أصل هذه الأزمة بمشكلة السيولة بالعملة الصعبة التي تعاني منها البلاد. فالعقد الموقّع مع الشركة التركيّة يحدد إيجار البواخر والعمولات بالعملة الصعبة. ويفترض تحويل هذه الأموال إلى حسابات الشركة في الخارج. أما أموال الاعتمادات المخصصة لذلك، فموجودة بالليرة اللبنانيّة في خزينة الدولة. الشركة غير مهتمّة طبعاً بتقاضي أموالها بالليرة أو بالدولار المصرفي اللبناني، ومصرف لبنان غير مستعد لإجراء عمليات الصرافة وإعطاء الدولة هذا الحجم الكبير من السيولة بالدولار، لتحويلها إلى الخارج. والنتيجة التعثّر في دفع هذه المستحقات.

مصادر حكوميّة مواكبة للملف تستبعد إيجاد أي حل لهذه المستحقات في الفترة المقبلة، خصوصاً أن المبالغ المستحقة، وتلك التي ستستحق في نهاية العقد، ضخمة، قياساً بحجم الاحتياطات المتبقية لدى المصرف المركزي بالعملة الأجنبيّة، والتي يحصر مصرف لبنان استخدامها في عمليات استيراد السلع الحيويّة التي تحتاجها البلاد. هذا فيما فواتير مؤسسة كهرباء لبنان تصدر وتُجبى بالليرة اللبنانيّة حصراً، ما يجعل توفير المبلغ بالدولار من خلال عمليات الجباية مسألة مستحيلة.

الشركة مستمرة ولكن...
حتّى اللحظة مازالت الشركة التركية تحاول التوفيق بين مسألتين: رفض تلقي مستحقاتها بالدولار المصرفي اللبناني، لكنّها تستمر حاليّاً بالعمل طالما أن الفيول متوفّر، وبقدر ما تستطيع الدولة توفير الفيول. عمليّاً، من الواضح أن الشركة ما زالت تتريّث، لأن البديل غير متوفر في هذه اللحظة. فاستثمار هذا النوع من البواخر يتم عادةً بموجب عقود طويلة الأمد، وبعد مفاوضات تقنيّة معقدّة. لذا لا تملك الشركة في الوقت الراهن خيار فسخ العقد وسحب البواخر، لاستثمارها بسهولة وبسرعة في أماكن أخرى حول العالم.

مصادر الشركة تقول: "رغم ذلك، فإن انسحاب الشركة من لبنان غير مطروح نهائيًا للنقاش وليس واردًا بأي حالٍ من الأحوال. وإن الشركة التركية تستمر في مساندة لبنان واللبنانيين في خضم الظروف الراهنة التي تمر بها البلاد".

ربما لم تبادر الشركة بعد إلى الانسحاب من السوق اللبنانيّة، ربما منتظرة التوصّل إلى تفاهم مع دول توفّر لها خيارات أخرى، بيد أن الشركة ستتصرّف بما تقتضيه مصلحتها ما أن تعثر على بديل.

لكن من غير الواضح مدى قدرة الشركة على تحمّل المزيد من التأخير في دفع مستحقّاتها. فهذا النوع من الشركات يرتبط بعقود وقروض تمويليّة تُراكم أعباء ودفعات معيّنة يُفترض سدادها من استثمار الأصول التي بحوزتها. وتريّث الشركة الحالي، يهيمن عليه شبح انسحابها من لبنان بمجرّد توفّر البديل والفرص الملائمة لها. وهذا الشبح يحوم فوق رؤوس اللبنانيين، طالما أن الدولة متخلّفة عن إيفاء مستحقات الشركة. أما انسحابها فيعني مفاقمة أزمة الكهرباء إلى أقصى الحدود، خصوصاً أن الدولة فضلت في الماضي خيار الارتباط بهذه البواخر لتوفير أكثر من ربع إنتاج مؤسسة الكهرباء، بدل بناء معامل جديدة.

وحتى في حال لم تر الشركة مصلحة في الانسحاب من عقدها مع لبنان في الوقت الراهن، فمن المفترض أن ينتهي العقد تلقائياً في السنة المقبلة. وحتّى اللحظة لم تبادر الشركة أو وزارة الطاقة إلى مناقشة تجديد هذا العقد. وفي حال لم تتمكّن الشركة من الحصول على مستحقاتها مع انتهاء العقد، فمن الأكيد أن لا مصلحة لها في تجديده. وهذا يعني دخول البلاد مجدداً في ورطة توقّف البواخر عن إنتاج الكهرباء، ونقص التغذية.

في الواقع، تشير مصادر متابعة داخل مؤسسة كهرباء لبنان إلى مشكلة أخرى مرتبطة بهذا الملف. فنقص إمدادات الفيول أدى في الفترة الماضية إلى تراجع كمية الكهرباء التي تنتجها البواخر. وهذا يعني أن الدولة كانت تراكم طوال الفترة الماضية مستحقات ضخمة بالدولار الأميركي، من دون أن تتمكّن فعلاً من الاستفادة من قدرة البواخر الإنتاجيّة القصوى التي كانت تترتّب على أساسها هذه المستحقات.

أزمة المصداقيّة
كان من المفترض أن ينتظر اللبنانيّون من الدولة إنجاز معامل الكهرباء بحلول السنة المقبلة، لتتمكن البلاد من تجاوز دوامة عقود البواخر المكلفة على الخزينة، فضلاً عن الصفقات التي ترتبط بها، وتجاوز الخوف من إمكان انسحاب هذه البواخر في أي لحظة، أو من مستقبل أزمة الكهرباء في حال لم تجدد عقود البواخر. لكنّ الدولة لم تبادر في السنوات الماضية إلى إطلاق هذه المشاريع، بعدما دخل تنفيذ خطّة الكهرباء في كل مرّة في دوامة الخلافات حول تحاصص المشاريع.

وعلى أي حال، من المؤكّد أن البلاد باتت عاجزة اليوم، نتيجة الأزمة الماليّة عن استقطاب أي استثمارات أجنبيّة أو تلزيم أي مشاريع في القطاع، وخصوصاً أن ما حصل من تعثّر في دفع مستحقات كارادينيز يعني ببساطة أن البلاد لم تعد تملك العملة الصعبة الكافية لتسديد الالتزامات الناشئة عن هذا النوع من التلزيمات. كما أن أي استثمار في القطاع سيكون عرضة لمخاطر عدم توفّر العملة الصعبة لاسترداد التكاليف وجني الأرباح. أمّا تمويل هذا النوع من المشاريع بقروض الدعم الأجنبيّة، كحال القروض التي جرى الحديث عنها في مؤتمر سيدر، فسينتظر مصير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. وخصوصاً أن جميع الجهات الأجنبيّة التي عرضت القروض والمنح في مؤتمر سيدر باتت تربط هذا النوع من الدعم بدخول لبنان في برنامج مع الصندوق.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024