أقطاب سلطة النهب يمنعون التدقيق الجنائي لإخفاء جرائمهم المالية

علي نور الدين

الإثنين 2020/10/12

يشهد الأسبوع المقبل محطّة مفصليّة في مسار التدقيق الجنائي بأرقام مصرف لبنان المالية، بعدما توافق وفد شركة ألفاريز آند مرسال، المكلّفة إجراء التدقيق، مع اللجنة التي عيّنها الحاكم لمتابعة الملف، على تسليم المعلومات المطلوبة لإجراء التدقيق بحلول يوم الثلثاء.

عراقيل وأفخاخ
لكن عمليّاً، يبدو أن مسار التدقيق سيواجه بعقبات كثيرة، بعدما تبيّن أن مصرف لبنان أبدى تحفّظات كبيرة على تسليم الكثير من البيانات المطلوبة من الشركة، لأن ذلك يتعارض مع قانوني السريّة المصرفيّة والنقد والتسليف. علماً أنّ العقد الموقّع بين لبنان والشركة، يحصر مهمّتها في هذه المرحلة بإعداد لائحة أوليّة بالمعلومات المطلوبة، لتدرسها لاحقاً، وتقرّر إمكان إستكمال التدقيق من عدمه.

ويمنح العقد الشركة خيار انسحابها من هذا المسار بأسره، إذا تبيّن لها أن المعلومات التي حصلت عليها من مصرف لبنان، غير كافية لإعداد تقرير قادر على تغطية "نطاق الخدمات" المطلوبة منها. أي أن مسار التدقيق جرى تفخيخه منذ البداية بكثير من الألغام: بتحويله بداية من تدقيق جنائي مكتمل العناصر، إلى تدقيق أوّلي محصور بدراسة عامة، للحكومة فيه خيار دخوله في مسارات أكثر تفصيلاً لاحقاً.

لكن أهم تلك الألغام، والتي توقّعت "المدن" تسببها بعرقلة التدقيق في مقالات سابقة، هو المسارعة إلى توقيع العقد من دون تذليل العقبات القانونية المتعلّقة بالسريّة المصرفيّة وسريّة معلومات مصرف لبنان.

والعقد ينص بصراحة على إجراء عمليّة التدقيق في إطار هذه القوانين، ومع إحترام القيود التي تفرضها. وبالفعل، ما أن بدأت الشركة اليوم مسار التدقيق، حتى ظهرت هذه الألغام في وجهها. بداية من العراقيل لجهة تزويدها بالمعلومات المطلوبة من مصرف لبنان. وهذا ما بات يهدد اليوم إمكان استكمال مسار التدقيق.

مشكلة "نطاق الخدمات"
نطاق الخدمات هو ببساطة مجموعة المهمّات المطلوبة من الشركة المدققة خلال المرحلة المقبلة، ونواحي عمل مصرف لبنان والمصارف التي ستقوم بتدقيقها. وقد حددها العقد الموقّع بين الشركة والدولة اللبنانيّة. واليوم، يبدو أن المشكلة التي بدأت تواجهها الشركة تكمن تحديداً في تعارض نطاق هذه الخدمات مع القيود القانونيّة من ناحية السريّة المصرفيّة، والتي بدأ مصرف لبنان يتذرّع بها لعرقلة تسليم الشركة المعلومات المطلوبة. لا بل يمكن القول أن بعض هذه المعلومات غير موجود أساساً بحوزة مصرف لبنان، أو أي جهة رسميّة في الوقت الحاضر. والحصول عليها يستلزم طلبها من المصارف التجاريّة مباشرة.

وينص العقد مثلاً على دراسة حركة الودائع في المصارف التجاريّة على مستوى عملائها، وتحديداً خلال فترة إجراء الهندسات الماليّة التي قام بها مصرف لبنان. وهذه المعلومات، بحسب مصادر مصرفيّة عدّة، غير متوفّرة بحوزة مصرف لبنان في الوقت الراهن. ومن المتوقّع أن لا يبادر المصرف المركزي إلى طلبها من المصارف، متذرعاً بأن أرصدة الحسابات المصرفيّة وحركتها، تدخل في نطاق السريّة المصرفيّة وفق القانون.

يدخل ضمن نطاق الخدمات المطلوبة من الشركة، البحث عن احتمالات حصول شركات وهميّة أو مشبوهة على منافع معيّنة من هذه العمليات. وهذه مهمّة غير ممكنة اليوم، لأن هويّة الحسابات المصرفيّة التي حصلت على الفوائد التي عرضتها المصارف على عملائها في  حقبة الهندسات الماليّة، متعذّرة للأسباب نفسها.

لذا يمكن تعداد مهمات كثيرة على الشركة إنجاها وفقاً للعقد، لكن تنفيذها فعلياً يرتبط بمعلومات لا يمكن الحصول عليها، كالتحقق من إمكان إساءة المصرف المركزي استعماله السيولة. ويتعذر القيام بذلك لأن المعلومات المتعلّقة بالتحويلات المصرفيّة إلى الخارج وهويّة المستفيدين منها، محميّة بموجبات السريّة المصرفيّة. ولهذا بدأ التجاذب مؤخّراً على خلفيّة طلب آلفاريز آند مرسال مجموعة كبيرة من المعلومات والبيانات المرتبطة بهذه المهمات المطلوبة منها. فرفض مصرف لبنان الإفصاح عنها أو تسليمها. وهذا قد يفعِّل حق الشركة في الاعتذار عن متابعة مهمّتها، إذا وجدت أن المعلومات والبيانات التي تسلمتها من مصرف لبنان لا تكفي لإتمام مهامها.

دور "المالية" الرمادي
وبصفتها الطرف المتعاقد مع الشركة، تمسك وزارة الماليّة بالعصا من منتصفها، في محاولة منها للتوفيق بين إصرار الشركة على الحصول على أبسط مقوّمات التدقيق الجنائي، وإصرار مصرف لبنان على التحفّظ عن قدر كبير من المعلومات المطلوبة لإنجاز هذا التدقيق. ولعلّ أولويّة الوزارة تكمن في تفادي سيناريو تنحّي الشركة عن متابعة مهمّتها. لأن هذه المسألة تعطي إشارة شديدة السلبيّة للأطراف الخارجيّة التي تتابع ملف التدقيق الجنائي، بوصفه شرط أساسي للحصول على أي دعم مالي.

والجميع بات يعلم أن عقد التدقيق ليس فعلياً ولا مكتمل الأركان، بل هو مجرّد تدقيق أولي سيُبنى عليه لاحقاً اختيار مسائل معيّنة يمكن التوسّع في التحقيق بشأنها، في حال تذليل العقبات القانونيّة. وفي الحالات كلها، يمكن القول أن وزارة الماليّة تتحمّل أيضاً مسؤوليّة فشل هذا المسار في حال اختارت الشركة الاعتذار عن إتمام مهمّتها. فالوزارة كانت مسؤولة طوال الحقبة الماضية عن إعداد عقد التدقيق مع الشركة على هذا النحو، إضافة إلى إشرافها على مسار تنفيذه.

والمتوقع ألا تعالج مشكلة العراقيل التي تواجه آلفاريز آند مرسال في القريب العاجل. فنوعيّة المعلومات التي تطلبها من مصرف لبنان ترتبط وثيقاً ببيانات ماليّة حسّاسة تخص أطراف نافذة في المنظومة السياسيّة في البلاد.

ولهذا السبب تحديداً، تقف الشركة أمام خيارين: إما متابعة التدقيق وإنجاز التقرير الأولي، من دون تمكنها من الكشف عن الكثير من المعلومات المطلوبة لمعرفة مصير التحويلات الماليّة التي جرت خلال الفترة الماضية، أو الأرباح الاستثنائيّة الضخمة التي نتجت عن الهندسات الماليّة. أما خيار الشركة الثاني فهو أو الاعتذار والانسحاب من هذا المسار.

وبين هذين الخيارين، تضغط وزارة الماليّة في اتجاه الخيار الأوّل، لأنه يمنح السلطة السياسيّة شهادة "حسن سلوك" أمام المجتمع الدولي. وذلك بحصولها على تقرير التدقيق الأولي، بلا كشفه عما يحرج أقطاب السلطة من معلومات تخص التحويلات وأرباح الهندسات وغيرها من أسرار مالية تتعلق بالمرحلة الماضية.

هل تبقى الحقائق مخفيّة؟
في الحالتين - أي سواء تعثّر عمل ألفاريز آند مرسال، أم استمر وأنتج تقريراً لا يكشف شيئاً من أسرار المرحلة الماضية - يمكن القول إن مسار التدقيق الفعلي انتهى قبل أن يبدأ. وفي الحالتين أيضاً، سيكون على المعنيين العودة إلى مجلس النواب لتذليل العقبات القانونيّة التي تعيق هذا المسار. سواء كان ذلك للبناء على تقرير التدقيق الأولي والتوسّع فيه بعد إنجازه، أو لإعادة إطلاق المسار بشكل مدروس في حال قررت ألفاريز آند مرسال الاعتذار عن إتمام المهمّة.

وقد يكون إتمام هذه المهمّة التشريعيّة مسألة معقّدة، نظراً إلى حرص كثيرين على إخفاء ما إرتكبوه في النظام المالي اللبناني، قبل الانهيار الحاصل وبعده. لكن الجميع أصبح على يقين من أن الحصول على أي دولار من المساعدات الدوليّة بات مستحيلاً، قبل إنجاز هذا النوع من التدقيق، ومعرفة خبايا عمليّات مصرف لبنان الاستثنائيّة وهندساته، والتحويلات التي جرت بعد تشرين الأول الماضي.

في اختصار، ليس ملف التدقيق الجنائي مسألة محوريّة لأنه متصل بإحقاق الحق ومعرفة مصير أموال النظام المصرفي المنهوبة، بل لأن عدم انجاز هذا المسار، يعني حرمان لبنان من أي فرصة للحصول على التمويل الخارجي. وهذا يدخل البلاد في المجهول، بعدما أصبح هذا النوع من الدعم رهان الدولة الأخير اليوم. أما استمرار عرقلة هذا المسار، فلا يعني سوى تعميق هوّة الانهيار، بسبب إصرار البعض على إخفاء معالم جرائمهم الماليّة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024